د. عبدالحق عزوزي
كان والدنا العلامة إدريس عزوزي، رحمه الله، من الذين مدادهم مروءة عربية، وبريقهم هي شمس العرب الحقيقية، التي تفهم الدين الإسلامي على حقيقته، وبناء الحضارة على حقيقتها؛ والجمال منهم فتان وكان من حماة الضاد وسدنتها ورعاتها، ومن أمراء العقل والاستقامة والزهد، وكان قمة في التواضع والوقار.. وسار على مر العقود تقدير طلبته وعامة الناس له وإكبارهم لجهاده وإجلالهم لسعة علمه وصواب تفكيره، المسيرة التي تستنير كل وقت من أوقات الالتقاء، وكل خطوة من خطوات الاستبار والاستجلاء والتحليل والتقييم، بنور جديد، ويقين وهاج، بـأن شخصية والدنا المرحوم شخصية جذابة أخاذة ثرية سخية قائمة على أصول لا تحور ولا تحول.
وقد كان رحمه الله إماما في الفقه والتفسير والحديث وفي العربية، عارفاً بالأحكام قوي المشاركة والتكوين، ذكياً فطناً مدركاً من أوعية العلم، نحوياً لغوياً، بارعاً مفيداً، ضابطاً سنياً فاضلاً من شجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، غاية في توقد الذهن وحسن الفهم وقوة التصرف.
ونحمد الله أننا نحن أبناؤه قد نشأنا في بيته بيت العلم والدين والوطنية التي كان لها أكبر تأثير على مسيرة حياتنا إلى أن أصبح منا قضاة وأساتذة جامعيون ومؤلفون ومسؤولون، وكان لنا فيها الوالد رحمه الله هو القدوة والمثال، وجعلنا تلقائياً ومنذ طفولتنا الأولى نصرف النظر عن كل ما يتعارض مع قيمها، أو ما يبعدنا عن اتباع القدوة وتحقيق المثال. وذلكم ما جعلنا نعيش شبه سلوك مثالي، وما يتطلب بلوغ لذة المعرفة من جهود، قد تصادف ظروفاً تفرض اتخاذ مواقف جريئة، وكنا نرى أن الزهد فيما سوى ما يدرك به هذا الهدف هو أحد مفاتيح إدراكه؛ ومعه الصبر على تحمل المشاق على ما كان فيها من تنقل في العقود الأولى من حياتنا، وهي تهون بمثل قول المتنبي يخاطب ممدوحه الذي كان دائم الترحل:
كل يوم لك ارتحال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
وهو كان دائماً ما يردد لنا بأن النجاحات في حياتنا لا يمكن أن تتحقق إلا بالعمل الدؤوب والإيمان بالقدر والاستقامة؛ فمن نتائج الإيمان بالقدر جلاء المواقف وزوال الهم والحزن، كما في الحديث النبوي الشريف، لما يكون له من راحة في نفس المؤمن الذي يتحقق من وقوع ما هو مكتوب له متى أراد الله ذلك.
ونحن صغار السن، كان، رحمه الله، يزور معلمينا وأساتذتنا في أقسام المدارس يسألهم عن انضباطنا وعن مستوانا، وكنا نفاجأ أن أكثرهم تتلمذوا عنه أو حضروا مجالسه أو استفادوا من خطبه ومواعظه، وكان رحمه الله يكافئنا بمكافآت مالية كلما حصلنا على الدرجة الأولى، وكان أيضاً هذا دأبه معي كلما حفظت حزباً من القرآن وأنا صغير السن حتى وجدت نفسي قد حفظت القرآن بأكمله.. وكان يتابع دراساتنا العليا وما فوق حشائشها وتحت حشائشها، ولا تفوته صغيرة ولا كبيرة؛ وأنا في مدينة تولوز الفرنسية أعد أطروحة الدكتوراه، كانت مكالماته الهاتفية معي تنحصر فقط في السؤال عن تقدم أبحاثي ووقت مناقشتي وكانت الوالدة حفظها الله ترطب ذلك بالسؤال عن صحتي، وعما تجود به يدي من طبخ وأكل. وكان رحمه الله يربينا على التفنن في العلوم والاستبحار فيها والجمع لها، والتقدم في المعارف كلها، والتكلم في أنواعها، وعلى أن نكون نافذين في جمعها، حريصين على أدائها ونشرها، وكان عندما يحقق إحدى المخطوطات نجلس جميعا نحن أبناؤه بجواره، وكل مرة يقرأ الواحد منا إحدى النسخ لتقارن مع النسخ الأخرى وكل مرة يوقفنا ويمتحننا ويشرح لنا لنكون ثاقبي الذهن في تمييز الصواب منها، وكان رحمه الله يجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق، مع حسن المعاشرة، وكثرة الاحتمال، وكرم النفس، وحسن العهد، وثبات الود.
وكان دائماً ونحن صغار السن يوجهنا إلى معرفة اللغة العربية وأسرارها، فإن ذلك يعين على فهم الآيات التي لا يتفق فهمها على غير لغة العرب؛ فقد ورد أن عمر بن الخطاب قال: عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا وما ديواننا؟ قال: شعر العرب، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
وكان رحمه الله يصل الرحم وتقضى على أيديه حوائج الناس، وكان يقدم الطعام والمأوى لمن زارنا في البيت ويضيف الضيوف ويكرمهم وكان لا يأكل وحده، ويجد في ذلك دعماً من الوالدة، الحاجة زهرة، أطال الله في عمرها، وهي المربية الحنون، التي أحاطتنا بحنانها وشملتنا بعطفها، وعلمتنا التوحيد والتوكل والإيمان بطريقة عفوية وفطرية، وهي أمينة السر التي لم تغب لحظة عن والدنا، وتلك خصائص كريمات أهل المغرب.
إذا لم تكن في منزل المرء حرة
تدبره ضاعت مصالح داره
**
وللحديث بقية..