د.محمد بن عبدالرحمن البشر
لا شك أن تسهيل البيروقراطية في الأعمال التجارية مهمة جداً، فهي تعمل على رواج التجارة، وخفض التكاليف، وزيادة الربح، وجذب المستثمرين، وهذا حدث عبر التاريخ، وما زال يحدث، وسوف يظل كذلك، لا سيما إذا صاحب ذلك استقرار وأمن، فقد قامت مدن وأصبحت مركزاً تجارياً بسبب عوامل عدة، ومن أهم تلك الأسباب التسهيلات في المعاملات، لا سيما التيسير الائتماني، وهذا ما هو قائم في دول آسيوية وأوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية الأكبر اقتصاداً وتأثيراً في العالم، والأقوى عملة، حيث قام الرئيس الأمريكي نيكسون بإلغاء غطاء الذهب واستبداله بالدولار، في وقت كان الاقتصاد الأمريكي يقرب من نصف الاقتصاد العالمي، إلى أن بدأ بالتقهقر التدريجي حتى وصل إلى أكثر من الخمس بقليل، مع صعود الصين، ودول أخرى مثل المملكة العربية السعودية.
سنذهب بعيداً عبر الزمن لنعطي نموذجاً لأثر التسهيلات التجارية والائتمانية على رواج التجارة، ونأخذ ما قاله المستشرق والرحالة السويسري جون لويس بوركهارت عن مدينة جدة، وهذا المستشرق ولد في مدينة لوزان بسويسرا عام 1784 وهي مدينة رائعة الجمال تقع على سفح جبل، تحيط بها الخضرة والأشجار المرتبة بشكل أنيق، مع درجة عالية من النظافة والأمن، ووالده سويسري وأمه إنجليزية، وقد أدت بهم الظروف السياسية إلى العيش في إنجلترا، في فترة كانت فيها بريطانيا العظمى تسود العالم وتليها فرنسا، كان العالم الإسلامي من الاهتمامات الأولى لبريطانيا، ورأى بوركهارت في نفسه إلى ذلك ميولاً، بعد أن كان ملتحقاً بالجمعية الملكية المعنية بالاكتشافات الإفريقية، فدرس اللغة العربية، وغير اسمه إلى إبراهيم عبدالله مدعياً أنه مسلم من ألبانيا، ورافق قافلة الحجاج الأفارقة، ونزل حلب وتوسع في دراسة اللغة العربية، واتصل بقبائل عنزة، ويبدو أن مصر كانت أكثر جذباً له، فذهب إلى هناك عام 1812، وكانت له علاقة بحاكم مصر محمد علي، ثم ذهب إلى الحج، ووصف جدة وصفاً دقيقاً.
لقد لفت نظره رواج التجارة في جدة التي وصلها حاجاً عام 1814 ومكث نحو أحد عشر شهراً وكتب عن وضعها المميز في الربط بين تجار اليمن والهند من جهة الذين يجلبون البن والأرز والتوابل، وبين تجار مصر، وتساءل عن عدم الاتصال المباشر بين تجار تلك الدول وميناء السويس المصري دون التوقف في جدة، وتبين له أن السبب يكمن في تيسير المعاملات لدى تجار جدة، فعدد سكان جدة في ذلك الوقت في تقديره يبلغ نحو أثني عشر ألف نسمة وهم خليط من أجناس مختلفة، أغلبهم من أصول يمنية حضرمية، ثم بعض الهنود والمصريين والأتراك، والتعامل بينهم وبين التجار اليمنيين والهنود يكون بالثقة، لذلك فإن المعاملة التجارية لا تأخذ سوى دقائق، في الوقت الذي يكون فيه أي تبادل تجاري بين تاجر في السويس والهند مثلاً يتطلب معاملة مالية وائتمانا يأخذ أسابيع أو أشهرا، مما يجعل البضاعة تتعرض للفساد أو كساد السعر وتغيره مما يؤدي إلى خسارة التاجر، ومثل تلك المعاملات البطيئة أيضاً تسود بين تجار مصر وسوريا، لهذا كانت مدينة جدة ملاذاً للخلاص من هذا الإجراء البطيء، بقي أن نذكر أن هذا المستشرق مات في مصر وعمره أربعة وثلاثون عاماً، وأورث لنا كنزاً من المعلومات المفيدة عن الجزيرة العربية ومصر والنوبة والبترا، وقد كان موضوعياً في طرحه ونقده رغم علاقته مع محمد علي، لكن علينا أن نعرف أن كتابه لم يظهر إلا بعد موته، ومثل ذلك التدوين التفصيلي ينقص الفرد العربي، الذي يعتمد على الذاكرة في الغالب.