رمضان جريدي العنزي
قال لي وهو الطاعن في السن، البارحة جاءتني طيوف الماضي، القطاء والغدير وفيضة العشب والغيمة المتهادئة، والبرق والرعد ومفرح العسس، رائحة خبز الصاج والرمث والنيتول والحناء وحفرة النار، وبيوت الشعر، والسحابة الهاطلة، والرحيل المر، والخلوج التي فقدت وليدها، لها حنين مر، وحزن كثيف، والرعاة المتعبون، وصوت الحداة في الليالي المعتمة، على مطاياهم الراكضة نحو التخوم البعيدة، والعابرون نحو الغياب الطويل، يقطعون مشياً، أو ظاعنين فوق ظهور الإبل يبحثون عن كلأ، أو شيء يسد الرمق، والسنين الممحلة، وذاك الشريد الطريد صعلوك جاء من فج بعيد، متعب وراحلته مثله متعبة، يسال الآتيات من الغدير شربة ماء، تسد العطش، هي القطبة تراءى لي، لها عمود وحيد، وبها شقوق، وحيدة منصوبة في مضارب نائية، ليس فيها سوى ريح جافة، ونعيق غراب بغيض، وعواء ذئب، وفحيح حية، وصوت كلب يعوي، على الغادين يعوي، وناقة عجفاء بالكاد تمشي، وجدب وقحط، وشجيرات يابسة أنهكها الظمأ، لا نعرف من العطور سوى رائحة الشيح والقيصوم والنفل والزعتر، ولا من الورود سوى الديدحان والصفار والشقار، ولا من الكماليات سوى (العدل) و(الزوادة) و(ثفال) الخبز و(عكة) السمن و(مخمر) الخاثر، وبريق شاي عتيق صار من أثر النار أسود، وأقصى أمنياتنا مزنة واعدة في قيظ شديد الحرارة، ونطرب لثغاء الشياه حين يعود الرعاة في وقت الغروب، كأن ثغائها سمفونية راقية، وكذا الربابة يشدوها من صوته عذب رقيق، تهيض المواجع مع لحنها، وتنزع من النفس آهات موجعة، ولا من تعاليل سوى في أول الليل قصير، لأن الناس من أثر التعب ناعسة، لذا تنام باكراً، لتصحو قبيل الشمس عاملة، وعندما يسفح النور، يطوون الأرض طياً، وعند الظهيرة يفرشون عباءاتهم تحت ظل شجرة، ويحكون لبعض عن الماء والرمل وبلاد العيون التي يبتغون..
تسهدني تلك الطيوف التليدة، كلما مر بي طيف جاءني طيف جديد، هي أشياء تسري في دمي وتسكن في الذاكرة كأنها طيلة الوقت معي، تشعل في روحي سنين الخوالي، لتصبح عندي قوافي، أو كماء بلا لون، لكنه الوقت الحاضر، والذي صرنا فيه ليس كما كنا، اختلفنا كثيراً، في العيش وفي الراحة وفي الاقتناء وفي الآمان الكبير، توحدنا كفسيفساء ثمينة، في وطن العطاء والرخاء والنماء، وحتى الصحاري التي كنا فيها صارت جنان، والبحار المالحة صارت عذبة كالأنهار، والمراكب ما عادت مطايا، صارت مركبات فارهات عذاب، فاللهم أدم علينا الأمن والأمان، وسحائب السلام، وأدحر كل عدو متربص بنا بغيض الكلام.