رقية نبيل عبيد
ما الذي يجري في منزل جارك؟! ذلك الذي لا يبعد عنك سوى خطوات، ذلك الذي لا يفصل بينك وبينه غير جدار واحد من الطوب، ذلك الذي يقابلك فتحييان بعضكما، تبتسمان على عجالة أو ترفعان أيديكما قبل أن تنزلانها سريعًا وتشيحان النظر ثم تهرولان مفترقين!
أما الأصوات الغامضة التي تسمعها منتصف الليل! أما الصراخ والغضب والكلمات المتبادلة العنيفة! أما النحيب المكتوم الآتي من وراء الجدار.. فهي أشياء لا علاقة لك بها! وعليك أن تكون مهذبًا متحفظًا وفي غاية الرقة حين تدفع بابتسامتك إلى شفتيك لدى لقائكما التالي.
آن في الثانية والثلاثين، أنجبت لتوها طفلتها الرضيعة ذات الستة أشهر كورا، آن متزوجة من الفتى الوسيم الإيطالي الذي يحبها بصدق رغمًا عن والديها، بالأخص رغمًا عن زوج أمها تشارلز، ووالديها أو بالأحرى والدتها تحديدًا شديدة الثراء.
في ليلة متعبة تطعم آن كورا وتضعها في مهدها ثم تذهب بصحبة ماركو إلى أمسية عشاء في المنزل المجاور تمامًا، عند جارتها التي لا تكن لها كثير مودة وزوجها الغافل عن جمال زوجته وإغراءاتها العديدة، وبرغم أنها وزوجها قد حرصا على تفقد الرضيعة كل نصف ساعة إلا أنهما يعودان لمنزلهما أخيرًا ليجدا المهد فارغ والطفلة مختفية، أحدهم اختطف الرضيعة بينما كانا في الخارج! وهكذا يبدأ اللغز.
سلسلة طويلة من الاتهامات والشكوك التي تطول الجميع حتى الوالدين المكلومين، تحقيقات لا تنتهي في الخلفية المالية والاجتماعية للجميع، تحقيقات تفضي إلى نتائج مثيرة للغاية وأحداث غاية في الغرابة لكنها محكمة ومنطقية فوق كل وصف في الآن ذاته، وهذا هو أكثر ما أحببت في الرواية.
في البدء ضايقني شعور الغربة الذي أحسسته بين شخصيات الرواية، فليس ثمة شخصية تحبها أو تركن إليها أو تندفع بعاطفة محمومة تدافع عنها، كل شيء مشكوك به ومهزوز ومشوش للغاية! ثم مع تتالي الأحداث وانكشاف أولى الألغاز يبدأ الفهم ويحدث التعاطف والجاذبية التي تربطك وشخصيات القصة، والجاني الحقيقي هو حقًا أبعد مما كنتَ تتخيل!
هذه الرواية أوقعني الحظ معها أثناء بحثي عن لغز غامض يحلو لي الكشف عن خيوطه، حقيقة أردت شيئًا أشبه بأحداث كريستي التي كانت ترمي لك خيوطًا في كل مكان وكل خيط منها قد يفضي أو لا يفضي إلى شيء! عشرون شخصية تملك كل واحدة منها الدافع والرغبة والأسرار الكفيلة بمد أصابع الاتهام إليها، وتبدأ الظنون تضرب في عمق كل الأبعاد، من الشرير الحقيقي هنا؟ ثم أخيرًا حين ينكشف كل شيءٍ وينبلج الفجر ويُمسك بالمجرم بجرمه تعود كل الأمور إلى نطاقها ويصبح كل شيء سهلًا كأنما لم يتعسر قط، وتُرضي الخاتمة أشد أنواع الأذواق تطرفًا، وهذه الرواية حملت تلك الرائحة، قد لا تكون أجاثاً، قد لا تكون شخصياتها المائة وحبكتها المثيرة المعقدة وجريمتها شبه الكاملة الغامضة، لكنها إثارة من هذه وتلك.