أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
الجذر الرباعيّ أو البناء الرباعي في العربية منجمٌ للبحث اللغوي، وعلى الرغم مما كتبه الباحثون فيه قديمًا وحديثًا إلا أنّهم لم يقولوا فيه الكلمة الأخيرة، فدائمًا هنالك ما يمكن قوله في هذا البناء الفريد، ومنذ سنوات عديدة كان الرباعيّ يثير فضولي، وكتبتُ في طرفٍ منه بحثًا بعنوان: (الرباعي المضاعف في العربية) ولم يزل في نفسي منه الكثير.
وحين ننظر إلى أصول العربية لدى الصرفيين القدماء نجدها عندهم: ثلاثيّة ورباعيّة وخماسيّة، ولكنّ اللغويين المعاصرين يزيدون أصلا آخر، وهو الثنائي، وهو في الحق منبع الأصول، وإن جاز التعبير فهو الجد الأكبر لأصول العربية، وعند تأمل حال الجذور من جهة النشوء والتطور يمكن القول إنها مرّت بثلاث مراحل، وهي:
المرحلة الأولى: مرحلة الثنائية أو الجذر الثنائي المكوّن من مقطع أحادي (صامتين متحرك فساكن مثل رمْ وقطْ) وهذه هي مرحلة طفولة اللغة، ويبدو أنها مرحلة قديمة جدًّا وقصيرة نسبيًّا.
المرحلة الثانية: مرحلة المراهقة اللغوية والانطلاق، وهي مرحلة تضعيف الحرف الثاني الساكن في المقطع الأُحادي، مثل: رمّ وقطّ. وهذه المرحلة بالغة الخطورة؛ لأنّ هذا الثلاثي المضعّف هو الجسر الذي عبرت عن طريقه الثنائيات إلى الضفة الأخرى ضفة الثلاثي، بفضل فك التضعيف والإبدال، وهي مرحلة أقصر من سابقتها، ولكنها كانت كانكسار السّدّ وفيضان الماء.
المرحلة الثالثة: مرحلة الثلاثي وما بعده من رباعيات وخماسيات، وهي مرحلة النضج، وأعدُّ الجذرَ الثلاثيّ قنبلة اللغة العربية الانشطارية التي فجّرت طاقاتها الاشتقاقية وأغنتها غِنًى فاحشًا في الألفاظ والأوزان، وهي أطول المراحل الثلاث، وأعظمها بلا شكّ.
= ولم يكن انتقال اللفظ الثنائي إلى الفضاء الثلاثي الرحب إلا بعد تضعيف الثنائي، وتحويله إلى ثلاثي مضعّف قابل للتحوّل أو التلوين الصوتي بالفكِّ مع الإبدال أو التعويض، فكلّ ثنائي يتحوّل إلى ثلاثي بهذا الطريقة. والفك بالإبدال لا الزيادة المحضة هو الأداة، ويكون الإبدال في الحشو والتذييل، ويكون التعويض في الصدر، ولا أرى قول القائلين بزيادة الحرف الثالث أو الثاني أو الأول، وهذه نقطة خلافي مع الثنائيين، نتجت عن النظر إلى الحرف المشدّد، وما أراه هو أن تشديد اللفظ الثنائي كان الجسر الذي عبرت عن طريقه الثنائية في رحلتها التاريخية إلى الثلاثية عن طريق الفكّ عينًا أو لامًا، والفك مع الحذف التعويض في الصدر؛ أي: محل الفاء، وليس الزيادة.
ولما كانت الثنائية مرحلة تاريخية تمثّل نشأة اللغة أو طفولتها -إنْ صحّ التعبير- فإنّ اللغة بعد تحوّلها إلى الثلاثية وما بعدها ووضعها الأسس الصرفية على الثلاثي والرباعي والخماسي قد هجرت الثنائية تمامًا، ولم يبق من مرحلتها التاريخية الأولى إلا أطلال قديمة متفرّقة متناثرة في المعاجم، وأحافير لا تكاد تلحظها إلا عيون الباحثين، لطغيان الجذر الثلاثي بجبروت التصريف، وما أشبه الثنائيات ببقايا الأحياء القديمة جدًّا في مدننا الكبيرة حين طغى عليها العمران الحديث والتهمها التوسّع والتغيير المهول في الهندسة والعمران، فلم يبق منها إلا رسوم لا يكاد يلحظها أكثر الناس، فأين تلك الأحياء الصغيرة القديمة من مساحات المدن الكبيرة وأحيائها الحديثة وعماراتها الحديثة؟ وكذلك الجذور الثنائية إذا قيست بالتوسع اللغوي المهول الذي طرأ على العربية بفضل الجذور الثلاثية منذ عصور بعيدة لا نكاد نعرف عنها شيئا! ومن المؤكد أنها تمتد في الماضي آلاف السنين، وربما مئات الألوف كما يقول أحد الباحثين، قبل الساميين والحاميين والآريين، وأنّ اللغة العربية التي بلغت ذروتها في الدقة والإحكام الصرفي والنحوي عند نزول القرآن مرّت بمراحل حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من نضج واكتمال.
وحين نمعن النظر في تراث العربية ومخزونها من الجذر الرباعي مما رصدته معاجمنا ونتأمل طريقتها في خلقه يمكننا أن نصنّفه في مجموعات، وهي:
1- مجموعة الرباعيّات المفكوكة من الثلاثيات، وهي ليست قليلة، فالرباعي (دحرج) يبدو متطوّرا من الثلاثي (درّج) بفك التضعيف، أي بقلب أولى الراءين حاء، فنشأ بهذا جذر رباعي مستقل. دَرْرَج/ دَحْرَج، ومن ذلك قولهم: ثوبٌ مُرَنْقَط بمعنى مُنَقّط، وهو رباعي مفكوك من رَقّطَه، ويبدو أن الرباعي صَلْصَقَ متطوّر بالفكّ من صَلّقَ، الدالّ على الصوت، وصَلَق الثلاثي هذا مفكوك من صلّ، فالأصل الأقدم ثنائي فتطوّر إلى ثلاثيّ ثم رباعيّ، ويبدو أنّ الرباعيّ (هملج) مفكوك من الهلج، وهو أخفّ النوم، ومثله كثير.
2- مجموعة الرباعيّات المركّبة من جذرين ثلاثيين، على نحو ما نراه عند ابن فارس، كالزّلقوم، يراه مركّبا من: زلق وزقم، والزهلق من: زهق وزلق، وبزعر من: بزع وزعر، وغير ذلك.
3- مجموعة الرباعيّات المضاعفة كزلزل وصلصل ودمدم وسلسل، وقد ذكرتُ أنواعها في بحث خاص مفصّل عنوانه: الرباعي المضاعف ف ي العربية، نشر في مجلة الدراسات اللغوية (مج 3، ع 1، المحرّم- ربيع الأول 1422هـ).
4- الرباعيّات المزيدة بحرف، زيادة لغوية لا صرفية، كالراء في سبطر، وهو ثلاثي قبل الزيادة، وعُطْبُل، وعُطْبُول، وصف للجارية الجميلة، والباء زائدة، وكذلك بحثر الشيءَ وبعثره، هما مزيدان بالراء، وكلها زيادات لغوية قديمة لا تظهر في الميزان؛ لأنها ليست زيادات صرفية.
5- الرباعيّات المعنعنة وهي ما قُلبت همزته عينًا فدخلت في جذر الكلمة، ومنها ما يحدث في بناء (افْعالّ) ثم يتطور إلى (افْعَأَلّ) ثم (افْعَلَلّ)، نحو اسمعدّ، وأصله اسمأدّ، وأصل هذا الأخير: اسمادّ، هكذا: اسمادّ) اسمأدّ) اسمعدّ، ومثله اشمعلّ، وأصله في النشوء: اشمالّ) اشمألّ) اشمعلّ. وكذلك ارمعلّ الثوبُ، وأصله: ارمالّ) ارمألّ) ارمعلّ، فهذه رباعيات معنعنة، ومنها نوع ينشأ من غير هذا البناء، مثل عصلج، فلعله معنعن من أصلج، وهو من الثلاثي صلج.
6- الرباعيّات المهنهنة، وهي شبيهة بما سبق، و»الهنهنة» مصطلح اقترحته على قياس العنعنة، فأرجو أن يروج إن كان فيه خير، وهو قلب الهمزة هاء في بعض الجذور والأبنية كبناء افعألّ، ومنه: اتمهلّ، وأصله: اتمالّ) اتمألّ) اتمهلّ، وكذلك ادرهمّ، وأصله: ادرامّ) ادرأمّ) ادرهمّ، وكذلك اكفهرّ، أصله: اكفارّ) اكفأرّ) اكفهرّ، وفي لهجاتنا منه: اسفهلّ بمعنى انشرح خاطره، وأصلها: اسفالّ) اسفألّ) اسفهلّ. ومن المهنهنات في غير هذا البناء: الهُبْقُع والهُباقع، وأحسب أنه من الثلاثي بقع، زيدت في الهمزة، فقيل: الأُبْقُع والأُباقع، ثم قلبت هاء وأصبحت من الجذر، كما هنهنوا الثلاثي أراق، فأصبح هَراق ثم أهراق، فتداخل فيه جذران: (ر ي ق) و(هـ ر ق).
7- الرباعيات المنوّنة، وهي المزيدة بنون في آخرها، كالرَّعْشَن، وهو الذي يرتعش، والخَلْبَن، وهي المرأة الخرقاء، والعّلْجن، وهي الناقة الغليظة، وفِرْسِن البعير، والجِعْثِن، وهو أصل الشجرة، والناقة العرضنة.
8- الرباعيّات الـمُميّمة، (من التمييم) وهي المزيدة بنون في آخرها، كالزُّرقم: وهو الأزرق الشديد الزرقة، والسُّتْهُم: وهو عظيم الاست، وسلطم: من السلاطة وهو الطول، وناقة صِلْدِم من الصَّلْد وهو الصلابة، وناقة ضِرْزِم من قَوْلهم: ضِرْز، أَي صُلْب شَدِيد، ورجل فُسْحُم من الفساحة، وجُلْهُم من جَلْهة الوَادي، وخَلْجَم من الخَلْج، وهو الانتزاع.
9- الرباعيات المنبسطة، أو المرتجلة على أصل رباعي ابتداء، دون زيادة فيها، وهي ما ليس من الثمانية السابقة، وهي كثيرة، ومنها: بحدر، ودعشق، وحمرد، ودعرب، وفرقح، وهدبس، وسرتح.
ولم يُعنَ الباحثون اللغويون عناية كافية بالتنقيب في طرق تولّد الجذور وتطوّرها من الثنائية إلى الثلاثية، ومن الثلاثية إلى الرباعية، ولم يقفوا كثيرًا عند الثلاثي المضعّف الذي يتولّد منه الصحيح والأجوف والناقص والرباعي المضاعف، مثل: لبْ) لبّ ) لبث / لاب / لبى / لبلب.
وحين أتأمل الأصول في العربية يظهر لي:
أ- أن الثّنائيّات جذور بائدة في لغتنا، ولها بقايا، وهي تخفي طفولة العربية.
ب- وأن الثّلاثيّات قنبلة العربية ومنجمها الأكبر في الألفاظ والأبنية، وطاقتها المتجدّدة.
ت- وأنه حين فشلت فكرة الجذور الخماسية أنهت العربية مغامرتها في رحلة التطوّر الكمّيّ، واكتفت بالثلاثيات والرباعيّات. والخماسيات الباقية في لغتنا قليلة، وهي بقايا لتلك المغامرة غير الناجحة، واستعاضت العربية عنها بالزوائد التي تمتاز بالمرونة الكافية في الاشتقاق.