أ.د. محمد خير محمود البقاعي
عدت إلى سكني الجامعي، وفي صباح اليوم الأول حصلت على جدولي التدريسي، كانت الجلسات موزعة على أربعة أيام، وبينما كنت خارجا من مكتب منسقة البرنامج التقيت بسيدة تبدو عليها ملامح الرقي والرزانة فألقيت التحية فردت بحماسة وصوت تشعر عند سماعه بكثير من الاحترام والرقي، فصدرت عني ابتسامة فسحت المجال لبدء حوار فسألتني عن اسمي وعملي فأجبت إجابة انفرجت لها أساريرها، وقالت كان مجلس القسم قد ناقش تمديد عملك بعد توفر الاعتماد المالي، وحظيت بثناء مسؤولة البرنامج والبروفسور جيليو مما حسم الأمر لصالح الموافقة، ثم أردفت قائلة أنا اسمي سولانج أوري = Solange Ory (1927?2018)
أستاذة النقوش والآثار العربية وذكرت رقم مكتبها وأنها تسكن قريبا من الجامعة وتأمل أن أزورها، وصرنا نلتقي في ممرات القسم بين الفينة والفينة فتسأل عن أحوالي وظروف عملي فأبدي على الدوام ارتياحي في عملي وسكني وفي علاقتي مع زملائي، ووجدت في أحد الأيام ورقة في صندوق بريدي تدعوني فيها إلى تناول طعام الغداء في بيتها لأنها تستضيف أستاذة نقوش وآثار إسلامية إيطالية لم أعد أذكر اسمها وتود أن أساعدهما في قراءة نص شعري منقوش على صرح من صروح المسلمين في صقلية وتريدان دراسته وترجمته والتعليق عليه للنشر، فأبديت سروري واستعدادي وحضرت إلى منزلها في الموعد المحدد، ولما دخلت إلى الصالون والسيدة أوري تسبقني رأيت سيدة قدرت أنها في الأربعين من العمر أنيقة لها نصيب وافر من الجمال فعرفت السيدة أوري بالضيفة ثم ثنت بالتعريف بي واتخذت مكاني غير بعيد عن السيدة الإيطالية، وعلى شابة أخرى كانت ذات شعر أحمر وبشرة بيضاء عرفت بها السيدة أوري بأنها إحدى طالباتها اللواتي حصلن على الدكتوراه حديثا في الدراسات الآثارية والحضارية كان اسمها فاليري غونزالس من أصول إسبانية استقرت أسرتها في مرسيليا وهي تسكن هناك في منزل صغير مستقل كما قالت، ولما سمعت ذلك أخبرتها أنني كنت من سنة أسكن في مرسيليا في منطقة الميناء قالت إنها تسكن غير بعيد عن المكان الذي كنت أسكن فيه، وبعد وقت قضيناه في الحديث عن النقوش والآثار والحضارة العربية في الأندلس وصقيلية ومالطة دعتنا السيدة أوري إلى طاولة الغداء التي كانت طالبتها أسهمت في ترتيبها، ومر الوقت سريعا في غمرة الحديث الذي امتد حتى بعد مغادرة طاولة الطعام والعودة إلى الصالون، وانضمت إلينا السيدة أوري بعد أن تركت للمدبرة التي تساعدها شأن رفع طاولة الطعام. وبعد وقت لم يطل جاءت المدبرة بالقهوة التي كانت رائحتها تملأ المكان فشربنا القهوة، وبعد استراحة قصيرة طلبت السيدة أوري أن نرافقها إلى مكتبتها التي كانت تشغل شقة متوسطة الحجم في المبنى نفسه في الطابق الثاني من المبنى بينما كان منزلها في الطابق الثالث فخرجنا معا وأخذنا المصعد ونزلنا ففتحت الباب فرأيت خزائن الكتب تملأ الشقة وفي الوسط طاولة تتسع لستة أشخاص فجلست السيدتان بينما اتجهت إلى الرفوف فضحكت السيدة أوري وقالت مداعبة: لدينا عمل ننجزه أيها السيد فضحكت وضحكت السيدتان وأخذت مكاني على الطاولة وعلى يميني السيدة أوري وعلى يساري السية الإيطالية وفي الجهة المقابلة الآنسة غونزالس. أخرجت السيدة أوري ملفا كبيرا ووزعت علينا صورا عن النقوش المطلوب قراءتها وترجمتها إلى الفرنسية لأنها ستنشر في دورية فرنسية.
منذ الوهلة الأولى بدا لي أن النقش شعر وكان ينبغي التعرف على الشاعر مما يسهل أمر القراءة. راق الرأي للسيدات وبعد وقت قصير اتضح لي أن المكتوب من قصيدة للمتنبي بكتابة متداخلة مع الزينة النباتية التي تعج بها النقوش فسألت السيدة أوري إن كانت تملك نسخة من ديوان المتنبي فأجابت بالإيجاب ونهضت وجاءت بنسخة من الديوان هي طبعة نادرة منه نشرها في عام 1944م الأستاذ عبد الوهاب محمد حسن عزام 1894- 1959م أحد أهم المفكرين ورجال السياسة والأدب في القرن العشرين.
كنت أسمع عنها ولم أجدها على كثرة البحث أيام الدراسة الجامعية في دمشق، ولم أدر بما أفرح بمعرفة أن النقش من شعر المتنبي أم رؤيتي الطبعة المذكورة، وقرأت السيدات على وجهي علامات السرور فقلت لأنني وجدت القصيدة التي منها الأبيات المنقوشة كما هي في الصور فعمت ملامح السرور وبدأنا بالقراءة والنسخ وكان اختلاف الرواية بين متن الديوان والنقش يوقع السيدات في حيرة حتى أشرت إلى أن كثيرا من روايات النقش مشار إليها في حاشية الطبعة وما لم نجده هو رواية نسخة أخرى من الديوان لم تصل إلى يد الأستاذ عزام رحمه الله، والبحث عنها يحتاج إلى طبعات أخرى من الديوان ربما يكون من العسير الحصول عليها. اتفق الجميع مع وجهة نظري وتابعنا النسخ والإشارة إلى ما نجده من اختلاف الرواية وتأكد لدي أن كاتب النقش لديه نسخة أخرى من ديوان المتنبي كانت منتشرة في صقلية، كان النقش الشعري طويلا استغرق قصيدة كاملة من شعر أبي الطيب فضلا عن المقارنة ودراسة نوع الخط والتزيين النباتي الذي يحيط بالنقش ودراسة الموقع الذي عثر فيه عليه وعصره وما إلى ذلك مما يعرفه المختصون.
استغرق كل ذلك وقتا وجهدا ولم ننته من النقوش فاقترحت السيدة أوري أن نتابع العمل في اليوم التالي لأن عملنا كان في يوم السبت والأحد عطلة أيضا ولقي الاقتراح الموافقة على أن أقضي الليلة في المكتبة والسيدات في منزل السيدة أوري فكان الأمر على ما ذكرت بعد وجبة عشاء خفيف وبعض الشاي وتبادل أطراف الحديث. ثم غادرت إلى المكتبة لأترك للسيدات حرية ما يردن فعله.
قضيت طرفا من الليلة في التنقل بين رفوف المكتبة متصفحا ما فيها من ذخائر عربية وفرنسية وعلى وجه الخصوص مطبوعات المعهد الفرنسي في دمشق حيث قضت السيدة أوري مدة من الزمن، وفي سلسلة المطبوعات نوادر من التراث يحرص المعهد على طباعتها لأنها قد لا تجد سبيلا للنشر في الدور التجارية بسبب تخصصها وإقبال شريحة غير واسعة على اقتنائها وكان من النوادر التي كنت أسمع عنها ولم أرها ديوان أبي فراس الحمداني، الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون التغلبي الرَّبَعي (ت 357هـ) رواية أبي عبد الله الحسين بن خالويه ( ت. 370هـ/980م)، تحقيق د. سامي الدهان رحمه الله ولد عام 1321هـ/1910م وتوفي عام 1391هـ/1973م من مطبوعات المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية، دمشق 1363هـ/1944م في ثلاثة مجلدات. أدركني التعب فأويت إلى السرير في غرفة صغيرة قربها حمام ومطبخ صغير، ولم أصح إلا على رنين الهاتف وصوت السيدة أوري يدعوني إلى الفطور اعتذرت لتأخري وطلبت بعض الوقت للاغتسال فضحكت وقالت لا تنس المفتاح الموضوع على قفل الباب من الداخل، ولم يستغرق أمري وقتا طويلا كنت بعدها جاهزا وصعدت إلى الطابق الثالث، وكان في المصعد رجل يحمل الخبز الفرنسي الطازج تفوح منه رائحته التي تفتح الشهية فرمقني بنظرة المستغرب ولما غادرنا المصعد في الدور الثالث انتظر ليرى أين أذهب فلما رآني أقرع باب السيدة ورآها تفتح الباب ابتسم لها ودخلت غير ملتفت إليه. سألتني السيدة عن الأمر فأخبرتها فقالت: هم غير معتادين على ذوي الشعر الأسود ثم ضحكت ودخلنا إلى غرفة الطعام وألقيت التحية على السيدتين واتخذت مكاني على الطاولة إلى جانب السيدة أوري. كان الفطور غنيا بمكوناته المتنوعة وقطع الخبز الطازج والحليب وأنواع من الجبن والمربيات وما إن انتهينا حتى عدنا إلى الصالون وشربنا القهوة التي اعتادت عليها السيدة أوري إبان إقامتها في دمشق.
وكانت المدبرة قد نزلت لترتيب مكان نومي في المكتبة ولما جاءت علمنا أنه جاء وقت العمل فاتجهنا بصحبة السيدة إلى المكتبة وبدأنا العمل واستمر ذلك حتى الظهيرة عندما انتهينا من النقش من شعر المتنبي وبعض الآيات القرآنية والأمثال، ولما مضى ساعتان على انتصاف النهار انتهينا من النسخ والمراجعة ورد الآيات والأشعار والأمثال إلى مصادرها. تنفس الجميع الصعداء وقالت السيدة أوري إنها ستنجز العمل التوثيقي ودراسة الموتيفات مع صديقتها الإيطالية، لم أشأ انتظار طعام الغداء، ولكن إلحاح السيدة أجبرني على البقاء على أن تتولى الآنسة فاليري إيصالي إلى السكن وهي في طريقها إلى مرسيليا. ولما انقضى كل ذلك وجدتني مرة أخرى في سكني لا يخطر ببالي إلا الاستعداد لليوم التالي ومقابلة طالبات الماجستير اللواتي كان ينبغي أن ألتقي بهن. فعلت كل ذلك وتمددت على سريري أسترجع ما أنجزناه مع السيدة أوري وأطري بيني وبين نفسي سعة صدرها وابتسامتها التي لا تفارق ثغرها حتى غلبني النعاس فنمت وصحوت مبكرا لأستعد للذهاب إلى دروسي التي تبدأ في الساعة التاسعة صباحا.
انتهت دروسي في الساعة الثانية عشرة، ذهبت بعدها إلى مكتب البروفسور جيليو الذي رحب بي وسألني عن أحوالي فأخبرته بمجريات الأمور فسر وأثنى على السيدة أوري وحرصها على العمل العلمي وبذلها في سبيل ذلك. وأخبرته أني أنوي زيارة المكتبة العربية قرب بيته إذ علمت أن صاحبها يغادر إلى المغرب، وأود أن أوصيه بتصوير نسخة ورقية من مخطوطة من كتاب «معجم السفر» للسلفي فقال يمكنني مرافقتك فأنا لم أزره منذ زمن. قطّعنا المسافة مشيا على الأقدام ولما وصلنا إلى المكتبة في وسط المدينة أدركنا التعب فجلسنا في المكتبة فقدم لنا صاحبها بعض الماء والعصير فكانت بادرة جيدة منه. حدثته عن أمر المخطوطة فوعد أن يبذل قصارى جهده لتصويرها على صعوبة الأمر حينئذ وتكلفته المرتفعة فأبديت استعدادي لدفع التكاليف ودفعت له مبلغا مقدما لتطمئن نفسه.
استعرضت برفقة السيد جيليو ما لديه من كتب حديثة، واستغرق ذلك بعض الوقت أصررت بعد ذلك على دعوته إلى مطعم سوري غير بعيد كان صديقاي بطرس وكجة قد دلاني عليه فوافق وذهبنا لتناول وجبة هي بين الغداء والعشاء، كان الطعام لذيذا وافرا وكان السعر مناسبا لا مبالغة فيه، ولما خرجنا باتجاه وسط المدينة أراد صديقي أن نحتسي مشروبا غازيا بعد وجبة دسمة ففعلنا ثم مضى كل منا إلى منزله إذ كان بحاجة إلى حمام بعد جولة طويلة.
تتالت الأيام وانقضت المدة التي طلبتها الآنسة أندريو لتسليم الرسالة فذهبت لزيارتها في مكتبها فرحبت بي وسلمتني قرصين مضغوطين على كل واحد نسخة من الرسالة وطلبت مني مراجعتها فقلت إنني لا أملك حاسوبا ولا أتقن العمل عليه فعرضت علي أن آتي إلى مكتبها بعد انتهاء الدوام لأقرأ الرسالة بحضورها على الشاشة لنجري التعديلات مباشرة فشكرت لها مبادرتها ولما عدت في اليوم التالي كنت أحمل الأجر الذي اتفقنا عليه ففرحت وقضينا خمسة عشر يوما في المراجعة والتعديل في ضوء ملاحظات أستاذي حتى استقر في نفسي أن الرسالة هي مستقيمة على أحسن وجه. نقلت ما أصلحناه على النسخة الاحتياطية أيضا، واتفقنا على يوم نتناول فيه طعام الغداء برفقة صديقتيها اللتين ساعدتاني خلال مدة إصابتي ففرحت ووعدت بالاتصال بهما لتحديد الموعد.
شعرت بارتياح ورضى لإنجاز الرسالة على أكمل وجه أراده أستاذي وأردته، وانتهى الفصل الأول وكانت نتائج الطلاب مرضية كل الرضى لهم وللقائمين على القسم. وفي إجازة منتصف العام اتجهت إلى ليون أحمل قرص الرسالة إلى أستاذي الذي استلمه فرحا ورجوته أن يسمح لي بالذهاب إلى زيارة صديقي فيليب في مقر عمله لأنني في عجلة من أمري للعودة إلى إكس. فرح فيليب لرؤيتي وضربنا موعدا للقاء بعد خروجه من العمل لنذهب معا إلى منزله الريفي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع قبل المغادرة وأخبرني أنه سيدعو عددا من الأصدقاء المشتركين لنلتقي ظهيرة السبت في المنزل على وجبة غداء اتفق مع أحد المطاعم لإيصالها ففرحت وبعد انتهاء عمله اتجهنا معا في سيارته إلى المنزل. كان الحديث ذا شجون عن ذكريات أيام الملحق ومطعم الجامعة ولقاء الأصدقاء هناك أسعدتني الذكريات وتساعدنا في إعداد وجبة العشاء مما في ثلاجته من قطع اللحم المثلج والبطاطس وأنواع من الأجبان وعصير البرتقال، واستكملنا حديث الذكريات على طاولة العشاء. ولنا لقاء.