د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[3-3]
تاسعاً: ومن الشَّجن أيضاً.
وممَّا هو لاحق بما سبق من التَّجديد والتَّصدير للتَّطوير، وهو من الفورات والمبتدعات الإغراب في عناوين الكتب فإذا قرأتَ عنوان كتابٍ فكأنَّك تقرأ لأهل الإغراب والنَّوادر؛ كإغراب عيسى بن عمر، ونوادر أبي زيدٍ، وكذا أسماء مؤلَّفاتهم، أو كأنَّك تقرأ من نتاج مُغرِبي عصرَيهما، وهو أن يعمد باحثٌ ما إلى صنع كتابٍ لضبط عِلمٍ أو لتيسيره أو للحثِّ على الفصاحة، بأن يصنِّف تصنيفاً في النَّحو، أو في الصَّرف، أو في البلاغة، أو في الحثِّ على الفصاحة، وفي غيرها من العلوم، فيغرب في عنوان كتابه، بل يغرق المطَّلع عليه بلفظ حوشيٍّ يجعله عنواناً لكتابه، وصنعه هذا هو منفِّر وطارد لا محبِّب وجاذب، إذ هو ينفِّر المتلقِّي من هذا الكتاب وممَّا فيه وما يدعو إليه، ولقد ضرَّ المتعلِّم وما سرَّه، والإغراب كما هو معلوم معدودٌ من عيوب الفصاحة، وهذا معلوم مرقوم في أوَّل مدرجة تعلُّم علوم البلاغة.
إنَّ الدَّعوة إلى تعلِّم العربيَّة وجودة سبك اللغة وحسن اختيار فصيحها لهو مطلبٌ حميد، وغاية حميدة، و-علم الله- لتلك مقاصد حسان، لكن يعيب ذلك إذا أَغرب صاحبها في اختيار عنوان كتابه صاحب الدَّعوة الحميدة، فحوشيُّ العنوان يطمس محمدة التَّصنيف.
وقد وقفتُ على عناوين كتبٍ بمثل هذه الأغراض النَّبيلة، وكانت عناوينها ما يأتي: (القرعبلانة، وجلنبلق، والعرنجيَّة)! هذه عناوين كتبٍ ثلاثةٍ في فنون ثلاثة، هي الصَّرف، وعلم المعجم، والحثُّ على جودة السَّبك والفصاحة، وما كان ضرَّ أصحاب هذه الكتب لو سمَّوها (الموضِّح/ والميسَّر/ والدَّليل)، إنَّ الملامة والعتب لتلحق بعض المؤلِّفين من جرَّاء ما يذكرونه في عناوين كتبهم العربيَّة من مثل (هرمينوطيقيا/ أبستمولوجيا/ أنطولوجيا/ أركيولوجيا/ فينومينولوجيا) في حين وجود اللفظ العربيِّ المبين المقابل لهذه المصطلحات الأعجميَّة لنحن ههنا أشدُّ لوماً لمن يروم تعليم العربيَّة من غيره، إذ هو يستحثُّ لأجلها ويغري بفصيحها، وتراه يغرب في عنوان كتابه بالاسم العربيِّ الحوشيِّ أو بالاسم الملفَّق مع وجود الواضح الفصيح.
ومن المعلوم أنَّ العنوان أوَّل عتبات النَّظر وهو أوَّل جاذبٍ للكتاب أو هو صادٍّ عنه، وقد جاء في الشَّرع الحكيم والهدي النَّبويِّ الشَّريف استحباب تحسين الأسماء، والتَّفاؤل بحسنها، بل قد ورد تغييرها إذا كانت فيها حزونة، أو طيرة، أو سوء، أو باطل.
وإذا كانت (القرعبلانة) اسماً لدويبَّة، و(جلنبلق) اسماً لصوتٍ، و(العرنجيَّة) الاسم العربيَّ مع الإفرنجيِّ؛ أفيحسن بنا أو يستساغ منا أن نضع كتاباً في فنٍّ ما من الفنون أو في علمٍ ما من العلوم، وأن نسميه مثلاً: (الجُرَذ/ أو الخنفساء/ أو العضرفوط في كذا وكذا)، و(قاشماش/ أو نخ نخ/ أو خازِبازِ في كذا وكذا)، ومثله (العقلاطفيَّة/ أو الأعدقاء/ أو العربيزيُّ/ أو الصَّورنة/ أو الدَّمغجة في كذا وكذا) أمثل هذا فصاحة وبلاغة وسعة أفقٍ واطِّلاع أم هو انغلاق وعِيٌّ وغثاثة وحُبُّ بروزٍ؟ وهو لا يعدو أن يكون انتحال ظاهرة في غير زمنها كما يعاب انتحال الشِّعر الجاهليِّ، إذ نحن لسنا في زمن الإغراب كزمن عيسى بن عمر، ولا في زمننا أحدٌ يسمِّي الشُّعوب الأوربيَّة بالفرنجة أو الإفرنج، ولا أحد يعرف القرعبلانة ولا يستعمل جلنبلق، والكتابة عنوان لزمنها وعلامة عليه، وهي حاكية للاحقين لغة الكاتبين، وواسمة لعصرهم، ومبينة طرائق تآليفهم وكتاباتهم.
إنَّ ما سبق لهو معدود من البعد عن غاية التَّصنيف، والحرص على لفظ العنوان دونما محتواه؛ فكأنَّ العنوان هو الجادَّة المأمومة والغاية المرومة، وأحسبه عدم توفيق للعنوان السَّليم الدَّالِّ، وسوء اختيار له، وربَّما غير ذلك، وربَّتما... على أنَّني لا أُغفل من محسبتي أنَّ لاختيار العنوان عناءً، لكنَّما ذلك في غير كتب العلوم وكتب تيسيرها؛ وذلك مثلاً يكون في تسمية ديوان من الدَّواوين ليكون له عنوان بارز، أو تسمية مجموعة من المجموعات القصصيَّة، وكذا تسمية الرِّوايات وأمثالها.
وأعدُّ مثل هذا الصَّنيع؛ أي: الإغراب في الكتب العلميَّة عند المصارحة أنَّ صاحبه يعيش في غير زمنه= وهذا انبتار، أو هو من الاستعراض بما عند الشَّخص من سعة علم واطِّلاع على المفاريد والنَّوادر، ولبيان مُكنته من الغريب والاضطلاع بما غاب عن الأذهان والأقلام من غريب الكلمات وشواذِّ الأسماء والآراء، وهو من الإغراب بالغريب، ويمكن تصنيفه: الذَّات أولاً، والقارئ ثانياً، والمطلوب أن يكون القارئ أولاً وثانياً وثالثاً.
وأتلطَّف وأقول: ربَّما حضر ذلك في قلب الشَّخص ونما إلى قلمه، وحاك في صدره، وسُطِر على طرسه من حيث يشعر أو لا يشعر، بل تجد هذا الشَّخص يسير على وِفاق ذلك الاستعراض وهو عنه غافل أو ذاهل، ولعلَّ العناوين السَّابقة من ذلك، وإن كان جَهد ذي الجهد في غير تخصِّصه فذلك أحضر عنده، وأدعى للوقوع فيه طلباً للتَّميُّز عن المتخصِّصين، والتَّفردِّ بما لديه دونهم؛ فيقع المحظور، وقد قيل: إنَّ من صال في غير ميدانه أخلَّ وأقصر، ومن ضرب بسيف غيره نبا ولم يبتر.
إنَّ العنوان ينبغي أن يكون صادقاً على المحتوى موحياً بما فيه دالّاً على الغرض المصنَّف من أجله، فإن كان للتَّيسير سمِّي تيسيراً وميسَّراً، وإن اختصاراً سمِّي مختصراً أو معتصراً وإن تلخيصاً ملخَّصاً، وإن تفصيلاً يُسمَّى المفصَّل والموسَّع.
وفي الختام أعود للبَدء من التَّذكير بتجديد الإملاء فأقول: إنَّي لأرجو أن أكون قد قدَّمت بياناً في هذا الأمر، ودفعت بشيءٍ ممَّا يخفِّف أوار هذه النَّابتة؛ لأنَّ من لا شغلَ له ينتكس على نفسه وينتكشها، فينشغل بأصوله نقضاً وهدماً، ولذا حُبِّب العمل وإشغال النَّفس بما ينفع، وهو ما ينبغي، بل يجب على كلِّ عامل أن يتطلَّب بعمله ثمرةً يسعى إليها، وألَّا يكون جهده في التَّغيير حبّاً للتَّغيير، ولا عمله في التَّجديد طمعاً في التَّجديد، أو من أجل الرَّغبة في البروز، بل يتقصَّد بصنيعه القربة والزُّلفَى له عند مولاه يرجو برَّها، ونفعها، وزكاءها، وبركتها.
وإلى لقاءٍ آخر يتجدَّد بكم أودِّعكم معاشر القرَّاء الكرام.