عبدالله العولقي
حول موضوع الحياة والموت عند المتنبي ربما نلحظ تناقضاً عجيباً في شخصية المتنبي، فشخصيته مليئة بالتناقضات، ففي أبياته التي يتحدث عن المجد والسيف وطلب الحكم والإمارة نجد تعلقه وتشبثه بالحياة من أجل تحقيق الطموح، وفي أبياته التي تتعلق بالموت نجد انهزامية عجيبة واستسلاما للموت في معادلة فلسفية تتساوى عند الشاعر قيمة الحياة والموت :
في الناس أمثلة تدور حياتها كمماتها ، ومماتها كحياتها
وفي ذات المعنى يقول الفيلسوف الشاعر :
كثير حياة المرء قل قليلها
يزول وباقي عمره مثل ذاهب
وتلك هي سنة الحياة :
على ذا مضى الناس، اجتماع وفرقة
وميت ومولود وقالٍ ووامق
وتتعمق فلسفته في الموت ، فلا يرى الموت إلا شكل من أشكال القتل :
إذا تأملت الزمان وصرفه تيقنت
أن الموت ضرب من القتل
وللمتنبي حول موضوع الموت والحياة فلسفة إنسانية عميقة أفردنا لها هذا المقال ، فشخصيته تضعف كثيراً عند فراق الأحبة الذين يودهم قلبه ، ولذا جاءت مراثيه صادقة تفعم بألم الفقد والحسرة على الرحيل ، وفي بيت فلسفي شهير يعجبني كثيراً ، يقول فيه :
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
هنا يتحدث عن حقيقة علمية توصلت إليها الدراسات والأبحاث الحديثة ، أن كثرة الحزن على فراق الأموات تعجل بالرحيل ، وقد رأينا قصصاً عدة حول وفاة الرجل سريعاً بعد وفاة زوجته والعكس صحيح، أو وفاة الصديق بعد وفاة صديقه ورفيق دربه ، وهكذا .
ويقول أيضاً حول هذا المعنى :
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيب
سبقنا إلى الدنيا ولو عاش أهلها
منعنا بها جيئة وذهوب
فالموت عند المتنبي يحمل طابعا فيه روحاً من الفلسفة العميقة ، وهو يتخذ صوراً متعددة ومتنوعة في شعر المتنبي ، فقد يتخذ الموت صورة اللص السارق كما في قوله :
وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
ويصفه في موضع آخر بالغادر :
غدرت يا موت ، كم أفنيت من عدد ٍ
بمن أصبت، وكم أسكت من لجب
والمتأمل لشعر المتنبي في الرثاء يلمح ( الصدمة النفسية ) التي تلحق بالمتنبي وراء سماع خبره لوفاة عزيز على قلبه ، فتجد مشاعره صادقة في رثائياته وممزوجة بالدهشة والحيرة من الفقد، هذه الصدمة تحوله في أبيات الرثاء، كما قلنا إلى فيلسوف عظيم يتميز عن سواه من الشعراء بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، ولذا نجد مستوى الوعي الإنساني بمفهوم الحياة يرتفع عند الشاعر إلى أعلى مستوى فنجده يحاول أن يفلسف الموت كما أسلفنا من قبل ، وربما يكون المتنبي هو أو أول شاعر يفلسف معنى الموت في تاريخ الأدب العربي، ولعل لمجالس سيف الدولة أثر كبير في هذه الثقافة الفكرية كونها احتضنت نخبة الفكر الفلسفي في ذلك الوقت ، فنجده يتساءل بفلسفة غريبة وخارجة عن الإطار المنطقي ، كيف لهذا الإنسان أن يسعى إلى التزاوج والجنس وهو يعلم نهايته المحتومة في الفناء :
وما الدهر أهل أن يؤمل عنده
حياة ، وأن يشتاق فيه إلى النسل
فالموت عند المتنبي يقترن بالحكمة الفلسفية إن صح التعبير، ومن أبياته حول الحياة والموت وتكثر فيها الحكمة :
نبكي على الدنيا وما من معشر ٍ
جمعتهم الدنيا ولم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى
كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه
حتى ثوى فحواه لحد ضيق
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا
أن الكلام لهم حلال مطلق
والموت آتٍ والنفوس نفائس
والمستغر بما لديه الأحمق
وفي هذه الأبيات نجد تناقضاً جلياً بين الحكمة النفيسة التي تتضمنها وبين سيرة المتنبي الحريصة على الحياة ، وهكذا هو الإنسان دائماً ، يتألم بفقد أحبابه فيدرك حقيقة الدنيا ، وتمر عليه الليالي والأيام فيتناسى وينسى حتى يعود إلى التكالب عليها مرة أخرى .
وفي أبيات أخرى تشبه الأخيرة في اعتبارها من حوادث الموت :
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ٍ
عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه
ما قومه ؟ ما يومه ؟ مالمصرع ؟
تتخلف الآثار عن أصحابها
حيناً ، ويدركها الفناء فتتبع
وتصل حكمة المتنبي وفلسفته في الموت إلى منتهاها بقوله :
يدفن بعضنا بعضاً وتمشي
أواخرنا على هام الأوالي
وفي قصيدته الشهيرة التي رثا بها جدته والتي يبدو من خلال السياق محبته الشديدة لها ، فبعد أن علم بمرضها بالحمى التي ماتت بها ، بعث لها خطاباً يعلمها بقدومه إليها ، لكنها ماتت بعيد قراءتها للجواب ، فقال يبكيها :
أحن إلى الكأس التي شربت بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضما
بكيت عليها خيفةً في حياتها
وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا
فلما دهتني لم تزدني بها علما
أتاها كتابي بعد يأس وترحة
فماتت سروراً فمت بها غما
حرام على قلبي السرور فإنني
أعد الذي ماتت به بعدها سما
فأصبحت أستسقي الغمام لقبرها
وقد كنت أستسقي الوغى والقنا الصما
هبيني أخذت الثأر فيك من العدا
فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى ؟
ليقول بعدها بيتاً يتضمن قمة تشاؤمه من الدنيا بعد هذا الرحيل :
كذا يا دنيا إذا شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قدما
وقد رثى خولة أخت سيف الدولة بقصيدة بكائية يضرب بها المثل في الندب والرثاء ، يقول في مطلعها :
يا أخت خير أخ ٍ يا بنت خير أب
كنايةً بهما عن أشرف النسب
إلى أن يصل إلى بيت القصيد وأروع ما في القصيدة :
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وكما قلنا من قبل، فإن صدمة الموت تلقي بأثرها العميق على نفس الشاعر الثائر فترتفع درجة العاطفة إلى أقصى حالاتها، ولذا نجده صادق الندب في مراثيه وعزائياته، ولعل عاطفته الصادقة في رثاء خولة أوهمت بعض الباحثين حبه الباطن والغامض لها !!.
وخاتمة القول .. توفي المتنبي مقتولاً وهو في الواحدة والخمسين من عمره ، كان معتداً ومزهواً بنفسه لدرجة كبيرة جداً ، فلم يلتفت إلى النصائح التي وجهها له صديقه أبو نصر الجبلي بعد الذهاب إلى الكوفة ، ولم يعتمد الإجراءات الاحتياطية لصون حياته من المتربصين بها ، فقد وصلت الأخبار المؤكدة بترصد فاتك الأسدي وجماعته له في طريقه ، لكنه رغم كل ذلك ذهب إلى الموت بمزيج من التهور والغطرسة والشجاعة ، فكان الهلاك هو النتيجة الطبيعية لذلك ، هل كان عقله الباطن يحثه على الذهاب إلى الموت بعد أن تبددت أحلامه وآماله التي قضى خمسة عقود من الدهر يلهث وراءها ؟ ، ربما يكون الأمر كذلك.