عبدالرحمن الحبيب
من الطبيعي أن الإنسان يختار من مواد الإنترنت ما يعجبه في كافة المجالات، سواء كانت ترفيهية من فن ورياضة أو اجتماعية وفكرية واقتصادية وسياسية.. إلخ؛ إنما الإشكالية عندما تتراكم هذه الاختيارات مع مرور الوقت حتى يصبح الفرد منحصراً في نوعية واحدة من الذائقة أو الأفكار أو السلوكيات، فينحاز لها وقد لا يرى غيرها مناسباً.
هنا لدينا محصلتان متناقضتان من الدراسات الاستطلاعية، إحداهما تميل إلى أن الإنترنت (خاصة وسائل التواصل الاجتماعي) يحصر آفاق الفكر، والأخرى تميل إلى أنه يوسعها مع كثرة الخيارات وتنوعها، فأيهما أقرب للواقع؟ كلاهما يقتربان ويبتعدان في واقع متماوج، فالإنترنت وسيلة محايدة لكنها مخاتلة.. فهو لا يخدعنا، بل يسمح لنا بخداع أنفسنا كما يسمح لنا بالخروج من فخ هذا الخداع..
الإنترنت يمكنه إطلاق عقلك كفراشة تسرح بحقول رحبة بين مختلف الزهور العطرة، أو يجعلك تتقوقع في شرنقة ضيقة تزدحم بأنفاسك مع زهور من نوع واحد.. وفي النهاية أنت صاحب القرار؛ ففي وسعك أن تطلق عقلك نحو الآفاق أو تحصره في قوقعة قناعاتك.. في كلتا الحالتين سيكون الإنترنت خير مساعد لك!
بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي فإن أصحاب منصات التواصل الاجتماعي هدفهم الربح وهذا حقهم، ولكن هذا الحق سيميل بالضرورة لما يخدم الأرباح، وقد يكون ضاراً، حتى لو أصر رجال الأعمال بالتزام منصاتهم بالمبادئ الأخلاقية العامة التي تقيد حرية النشر لكيلا يكون مضللا.
عندما يقرأ شخص معلومة مضللة وليس لديه معرفة بالموضوع، فهل يصدقها أم يكذبها؟ قد لا يمتلك الفرد أدوات البحث أو الوقت أو الكفاءة، فيكتفي بما يعتقده الآخرون: «عندما لا تمتلك معلومات كافية لحل مشكلة معينة، أو إذا كنت لا تريد أو ليس لديك الوقت الكافي لمعالجتها، فقد يكون من المنطقي تقليد الآخرين عن طريق إثبات اجتماعي»، حسب الباحثان فينسنت هندريكس وبيلي هانسن في كتابهما «عواصف المعلومات».
في دراسة مسحية فريدة من نوعها قام بها مركز بيو للأبحاث بعنوان «رسم خرائط شبكات تويتر» تم تتبع مسار كل تغريدة لتتكون مجموعة هائلة من النقاط على شكل حشود وشبكة خطوط للعلاقات بين المشاركين بالمحادثة، وبالأخير تشكّلت خرائط واضحة المعالم. كشفت الدراسة أنه إذا كان الموضوع سياسياً، فالغالب أن يأخذ شكل حشدين قطبيين منفصلين بشكل واضح، ليشكلا مجموعتي مناقشة لا تتفاعلان مع بعضهما ولا ترتبطان إلا باتصال ضعيف جداً رغم أنهما تتناولان نفس الموضوع. المشاركون في كل مجموعة منفصلون عن المجموعة الأخرى، ويستخدمون هاشتاقات وكلمات متمايزة عن بعضهما، وطرق فهم ومصادر معلومات مختلفة عن بعضهما.
حسب هذه الدراسة، تلك ظاهرة عالمية توضح الطبيعة البشرية التي تكشفها منصات التواصل الاجتماعي على نحو قاس عبر المحادثات السياسية وما لها من أثر أبعد مدى خارج هذه المنصات: إنه الحشد الاستقطابي الحاد بين مجموعتين من الناس داخل كل حالة سياسية، مع ميل كثير من الناشطين لفرز أنفسهم في معسكرات حزبية تتعدى حدود دولهم، مما يثير اتهامات بالعمالة أو الخيانة من كل فريق تجاه الفريق الآخر.. لتصبح الحالة أقرب للضجيج الإعلامي والمماحكة السياسية منها للحراك الاجتماعي والثقافي..
كما يُعتقد أن خيارات الذكاء الاصطناعي في مبحث الإنترنت تشجع على الاستقطاب وتعرقل فهم الآخر ومعرفة الجديد؛ كيف؟ عندما تبحث في المجالات الفكرية والاجتماعية والثقافية والفنية والرياضية، فالذكاء الاصطناعي يقترح لك أريح الخيارات وأقربها لرغباتك، حيث تتم عملية الترشيح بالاستناد على بيانات سابقة لك ولمن يشبهك بالخيارات، وهذه مهمة أساسية للوصول للخيار المطلوب إلا أنها تحجب عنك ما يطرأ في المجال من تغيّرات وأفكار مختلفة لم تمر عليها ضغطة زر أصابعك.
هنا، نتعرض لعملية «توجيه» لمسار محدد بما اعتدنا عليه من خيارات داخل منطقة الراحة المحيطة بنا (comfort zone)، فلا يحفزنا على الإبداع بل يكرّس المألوف لدينا، وقد يحجب الفرص الجديدة المهمة لاتخاذ الخيار المناسب. فإذا كنتُ لا أفتح إلا على المواقع التي لها نفس فكري وتصوري وذائقتي فسأتقوقع في عالمي الخاص مضعفاً العوامل المساعدة على التطور والابتكار.. فتضيق النفس قبل العقل تجاه الآخرين..
على النقيض من كل ذلك، ما وجدته استطلاعات أخرى؛ ففي دراسة استقصائية أجراها مركز بيو للأبحاث (2019) في 11 دولة بأربع قارات، عند المقارنة بين مستخدمي الهواتف الذكية والتقليدية، توصلت إلى أن مستخدمي الهواتف الذكية - خاصة أولئك الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي - يتفاعلون أكثر مع الأشخاص الذين لديهم خلفيات مختلفة، وهم أكثر عرضة للتفاعل مع أشخاص من مجموعات دينية مختلفة أو أحزاب سياسية مختلفة، أو مستويات دخل وخلفيات عرقية أو ثقافية مختلفة. فعلى سبيل المثال وجد الاستطلاع أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أكثر تفاعلاً مع أشخاص مختلفين عنهم بزيادة عن أقرانهم الذين يستخدمون الهواتف التقليدية بنسب تراوحت من 6 % (الفلبين) و9 % (فنزويلا) إلى 15 % (لبنان، كولومبيا)، 17 % (الهند، تونس، كينيا)، 19 % (المكسيك). مما يعني أن وسائل التواصل الاجتماعي تدعم الانفتاح على الآراء المختلفة.