د.عبدالله بن موسى الطاير
يتمنى الحزبان الديموقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية أنه بإمكان أي منهما التأثير القوي أو حتى السيطرة على الرواية العامة، وقمع الرأي المعارض حتى تنتهي الانتخابات.
هذه الأمنيات ضرب من الخيال في بلد بلغ الرشد مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وتمكن الرأي والرأي المخالف من التعايش وفرض التنوع في الخطاب السياسي بما يخدم توجهات وإيديولوجيات الحزبين الحاكمين. قد تتحقق الأمنيات في بلد ناشئ يشق طريقه نحو التنمية والازدهار، كما حدث مع سنغافورة في بداية نهضتها، حيث أعطت الحكومة السنغافورية إذ ذاك الأولوية للخطاب الذي عزز الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، باعتبارها أمة شابة تتلمس طريقها نحو المستقبل وتكابد تحديات وجودية، بما في ذلك التوترات العرقية والتخلف الاقتصادي والتهديدات الأمنية الخارجية.
السرد الموحد كان بالنسبة لأبي النهضة السنغافورية هو السبيل الوحيدة لتحريك المجتمع كتلة واحدة خلف خططه لبناء أمة متقدمة في جميع المجالات، فاقتضى الظرف السيطرة على وسائل الإعلام وبالتالي فرض رؤية ورواية الحكومة؛ وحتى لا يُظلم رائد النهضة في سنغافورة فمن العدل التذكير بأنه قد ترك هامشا لسماع وجهات نظر منظمات المجتمع المدني، والأكاديميين، واستمع لوجهات نظر متباينة داخل حكومته.
قد يجادل البعض بعد أن بلغت سنغافورة أشدها، عما إذا كان ذلك النهج كان ضروريًا لنجاح سنغافورة، أم أنه اجتهاد قابل للنقاش، إذ من المحتمل أن تؤدي المسارات البديلة أيضًا إلى نتائج إيجابية. هذه الفرضيات تتكشف عنها حالة الارتياح اللاحقة لتمام البناء وتجاوز التحديات التي تطلبت وحدة سنغافورة خلف باني نهضتها الحديثة.
نهج سنغافورة للسيطرة على السرد العام أسهم في نجاحها المبكر، وللباحثين لاحقا تقييم الفروق الدقيقة والسلبيات المحتملة لتلك الاستراتيجية.
بالعودة إلى أمريكا، البلد الذي اختار الحرب الأهلية للنهوض على عكس سنغافورة، فإن تصارع الروايات فيما بعد الحرب يبدو نعيما مقيما بالمقارنة بالصراع الدموي، ويدرك الجهوريون والديموقراطيون أن السبيل الوحيد لمنع الانزلاق إلى حرب أهلية هو المحافظة على تماس محسوب بين طرفي الثنائية المحافظة والليبرالية في أمريكا.
من هذا المنطلق، يتمسك كل منهما بخطابه، ويسيطر مبدأ الفرز البيّن على الفضاء العام، فلا يمكن أن ينظر لقناتي فوكس نيوز وسي إن إن خارج سياق نحن وهم.
يدرك الأمريكيون مشروعون وتنفيذيون وقضائيون ومواطنون أنه عندما يهيمن سرد واحد، فإنه لا محالة سيؤدي إلى قمع نصف المجتمع الأمريكي تقريبا، وسيعيق التفكير النقدي والابتكار والقدرة على مواجهة التحديات بشكل فعال، وهي سمات طورتها أمريكا منذ نهاية الحرب الأمريكية، وأصبحت أساسات لنهضتها الصناعية وتقدمها الاقتصادي وقيادتها النظام العالمي. ولذلك يتحلون بالصبر أو يتظاهرون بما ليس منه بد تجنبا لزيادة حدة الاستقطاب والانقسام الأيديولوجي، وتقويض التماسك الاجتماعي وزيادة خطر الاضطرابات أو الصراعات المؤدية إلى الحرب الأهلية التي لا زالت حاضرة في الذاكرة الأمريكية ولها مسارها الخاص في الوعي المعاصر.
الأمريكيون الذين اعتادوا على قبول رواية واحدة دون تشكيك فيها سواء في الجانب الجمهوري أو الجانب الديموقراطي هم أكثر عرضة لحملات التلاعب والتضليل الانتخابية لأنهم مع مرشح الحزب، ولن يزحزح أحد مواقفهم، فهم مستقطبون إلى اليسار أو اليمين، إلا أن مجموعة واحدة تتربع بهدوء في الوسط لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وهم الناخبون المستقلون المنتشرون في عدد من الولايات التي تسمى بالولايات المتأرجحة، وهم الذين يقررون من يصل إلى البيت الأبيض.
تقول بعض المصادر أن الناخبين المستقلون شكلوا 31 % في الانتخابات النصفية عام 2022م، و26 % من الأصوات في السباق الرئاسي لعام 2020م. وتصف وكالة رويترز في تقرير لها الناخبين المستقلين بأنهم أصغر سنا من الجمهوريين والديمقراطيين الراسخون في معتقدهم السياسي، وأن 26% من المستقلين هم جزء من الجيل المسمى (Z)، والأغلبية لم تكن كبيرة بما يكفي للتصويت في انتخابات 2020م، وأن 36 % من جيل الألفية.
سبق للرئيس بايدن أن امتدح النهج السياسي الصيني حيث يتخذ الرئيس قراره بدون منغصات حزبية، كما أن الرئيس السابق ترامب مولع بالهيمنة، ويرغب في أن يرى أمريكا تعتنق عن بكرة أبيها روايته الحمراء على حساب الطيف الأزرق، لكن أي من الساسة الأمريكيين لا يملك سوى التعايش مع تنوع الرواية التي تصل أحيانا حد التطرف والغرابة في أدبيات جماعات مثل QAnon اليمينية المتطرفة.
نموذج سنغافورة الناهضة حينئذ لا يقترب على الإطلاق من تجربة أمة أمريكية بدأت نهضتها بالدوم وترى في الاختلاف السلمي في وجهات النظر رحمة واسعة، وأساسا لتطورها ونهضتها.