د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
عندما قادت السعودية تحولا اقتصاديا شاملا عبر رؤية المملكة 2030 في 25 أبريل 2016 كانت خارطة طريق طموحة ترتكز على مكامن القوة التي وهبها الله لهذه الأرض، تهدف بهذا ألا تصبح حبيسة دخل إيرادات النفط، ولكنها لن تتخلى عن النفط بل تسعى نحو تعظيم قيمته الاقتصادية تماشيا مع نفس الرؤية لرفع الناتج الإجمالي للسعودية.
أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا عن ارتفاع إيرادات النفط حتى 2026 إلى 783 مليار ريال ( 209 مليارات دولار ) لتشكل حوالي 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2026، ثم تنخفض الإيرادات في 2029 إلى 778 مليار ريال، وأن السعودية تحتاج إلى أسعار نفط بأكثر من 92 دولارا للبرميل لموازنة ميزانيتها، وهو أعلى بأكثر من 20 دولارا من المستويات الحالية لخام برنت القياسي العالمي، وافترضت الوكالة أن متوسط سعر التصدير للسعودية سيبلغ 82.5 دولارا للبرميل في 2024، لينخفض إلى 70 دولارا بحلول نهاية العقد.
ووفق بلومبرغ أن صندوق النقد الدولي يحذر السعودية من خطر يحدق بميزانيتها، لكن وزير الاستثمار خالد الفالح رد على التقرير بأن السعودية نفذت بالفعل أو على وشك أن تكتمل 87 في المائة من أهداف الخطة الاقتصادية لرؤية المملكة 2030 التي تهدف على تقليل الاعتماد لتقليل الاعتماد على النفط.
ما حققته السعودية لا يزال محل شكوك لدى كثيرين إما عمدا أو جهلا مستندين في ذلك إلى أن السعودية كانت تعتمد منذ عقود عديدة على النفط، وتقرير صندوق النقد أحدها، كما بقية التقارير التي لا تكل ولا تمل ليس هدفها تقديم نصيحة للسعودية بقدر التشكيك في قدراتها، وهذا لا يعني أن السعودية ترفض كل التقارير خصوصا التقارير المجردة من أي نوايا خفية، فاجأتهم السعودية بمدى عمق الرؤية واتساعها وشمولها لجوانب لم يتوقعها البعض، وما حققته من أهداف أصبحت شاهد عيان على قدرتها في الاستمرار على تنويع اقتصادها، وتخفيف اعتمادها على النفط، حيث باتت حصة النفط كنسبة من إجمالي الإيرادات تبلغ 60 في المائة متراجعة من 80 في المائة سابقا، نتيجة حصول الاقتصاد غير النفطي على دعم صندوق الاستثمارات العام لرفع استثماراته السنوية من 40 مليار دولار إلى 70 مليار دولار سنويا، ما أدى إلى تضاعف الايرادات غير النفطية على مدى السنوات الخمس الماضية من 6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى 12 في المائة.
حديث تقرير الصندوق عن أسعار النفط الخام قد تكون قاصرة، والسعودية تنظر بمنظار آخر لتعظيم تلك القيمة لتحقيق أهدافها تنويع اقتصادها، فاتجهت في 2019 نحو الإعلان عن استحواذ أرامكو على حصة الأغلبية البالغة 70 في المائة في شركة سابك بلغت قيمتها 69.1 مليار دولار، ولديهما تجربة في 2018 لإنشاء مجمع لتحويل النفط الخام إلى منتجات كيماوية في السعودية بقيمة 20 مليار دولار، لتفادي أزمة ركود يمر بها العالم ينتج عنه ضف في الطلب على النفط ومشتقاته، لأنها ترى التكامل في التكرير والبتروكيماويات عالميا في تعزيز استراتيجية السعودية في مجال تحويل النفط الخام إلى كيمائيات.
السعودية لديها استراتيجية بعيدة المدى في مجال أنشطة المصب، من أهمها زيادة طاقتها الإنتاجية في قطاع التكرير عالميا من 5 ملايين إلى ما بين 8-10 ملايين برميل يوميا بحلول 2030، ويتم بعد ذلك تحويل ما مقداره 2 إلى 3 مليون برميل يوميا إلى منتجات بتروكيميائية، بالطبع لم يتطرق صندوق النقد إلى هذه الاستراتيجية التي تتجه نحو تعظيم قيمة النفط بدلا من تصديره خام فقط، وهي تصب في نفس الوقت في تنويع مصادر الدخل التي ستتغلب على تقلبات أسعار النفط، وفي نفس الوقت يشكل قطاع البتروكيماويات أكثر من ثلث النمو في الطلب العالمي على النفط وذلك بحلول 2030 ونحو نصف الطلب في 2050.
شهد قطاع البتروكيماويات نموا في 2022 بنحو 77 في المائة في دول مجلس التعاون إلى 95.6 مليار دولار بلغ حجم الإنتاج 154 مليون طن في 2021 زاد بنسبة 5 في المائة عام 2022، وتذهب صادرات السعودية بنحو 11 في المائة من حجم صادراتها إلى أوروبا لأنها سوق كبيرة في صناعة السيارات والمعتمدة بشكل كبير على المواد البتروكيماوية والبلاستيكية، خصوصا مع التوجه نحو تخفيف محتويات السيارات، وبشكل خاص في صناعة السيارات الكهربائية، وهو ما جعل السعودية تتجه لتصبح مركز إقليمي وعالمي في صناعة السيارات ينافس صناعة السيارات العالمية.
هذا إلى جانب أن صناعة البتروكيماويات لها دور كبير في إمداد الطاقة المتجددة باحتياجاتها من مراوح طاقة الرياح إلى ألواح الطاقة الشمسية، أي أن السعودية تغتنم الفرص في القرن الواحد والعشرين عن طريق سلاسل القيمة العالية القادرة على الصمود في مجال الصناعات البتروكيماوية، حيث تعتبر المواد البلاستيكية والمطاط والمواد الكيمائية المتخصصة حيوية لكل شيء من هندسة السيارات إلى البناء ومن الالكترونيات إلى التعبئة والتغليف ومن الهندسة الطبية إلى المنظفات وأسهم القطاع بنحو 5.7 تريليون دولار عام 2020 من الناتج المحلي العالمي، وبدلا من بيع الوقود مقابل 550 دولارا للطن عام 2020 أو تحويله إلى بتروكيماويات والحصول على 1400 دولار للطن، وتمتلك السعودية الديناميكيات العالية في بناء صناعات بتروكيماوية فعالة بسبب أنها تتطلب رأس مال كثيف ولا يتوفر لدى كثير من الجهات.
رغم ذلك فإن توقع شركة إكسون موبيل توقعاتها أتت عكس توقعات صندوق النقد الدولي الذي أيدته بلومبرغ وهي توقعات تتوافق مع توقعات أوبك بأن استهلاك الطاقة سترتفع إلى 15 في المائة في 2050 عن معدله في الفترة الحالية، وبشكل خاص في قطاع النقل التجاري الغير مؤهل لاستخدام الطاقة الكهربائية خصوصا مثل الطائرات والشاحنات الضخمة في الطرق الطويلة.
**
- أستاذ الجغرافيا الاقتصادية والسياسية سابقا بجامعة أم القرى