عبدالله مسفر الشمراني
إن للنُّبل ثمنًا قد يكون مُرًّا، فالنبيل يصمت وهو يملك كل أدوات الكلام، يحبس في صدره حزنه وهمّه لأنه يحمل في قلبه سمات العزة والكرامة، فتراه يُخفي ألمه بابتسامةٍ رقيقة، ويواجه المواقف الصعبة بثباتٍ وهدوء.
ثمن النبل صعب، لكنه في النهاية يرفع صاحبه إلى مكانة سامية تتجلى فيها أسمى معاني المبادئ. فالنَبيل، في رحلته عبر الحياة، يتعلم أن الترفُّع عن الرد على الإساءة والابتعاد عن الخوض في الصراعات ليس ضعفًا، بل هو منتهى القوة والعزة، صمته هذا ليس عجزًا عن الرد، بل هو اختيارٌ واعٍ للتعالي فوق التفاهات والتركيز على ما هو أسمى وأرقى.
النبيل عندما يرى ما يسوؤه، لا يُكثر العتاب ولا يستهلك طاقته في التوبيخ واللوم، بل يختار الابتعاد بهدوء. إنه يعلم أن العتاب الكثير لا يزيد الأمور إلا سوءًا، وأن الترفع عن صغائر الأمور هو السبيل الأمثل لحفظ كرامته وصون سموه.
تَأتي حكمة المتنبي لتعزز هذا المعنى بقوله: «تَلذُّ لهُ المرُوءةُ وهي تُؤذي». فالمروءة تؤذي صاحبها بما فيها من التكاليف في مسيرته نحو النبل، يمر بالكثير من المواقف التي تتطلب منه الصبر والتحمل، ومع كل تحدٍّ يتجاوزه، يزداد نبلًا وعظمة، حتى وإن كان ذلك يتطلب منه تضحياتٍ شخصية ومعاناة.
للنبل ثمن، لكنه ليس ثمنًا يدفعه النبيل وحده؛ إنه ثمن يدفعه غير النبيل أيضا حينما يمر بالاختبارات التي تقيس مدى نبله فيقع في حمئآت الضلالة فيدفع ثمن خلوه من المبادئ، فقد يستطيع أن يستمتع بحياته دون مبادئ، لكن هذه المتعة لن تدوم ثم يصحبها الندامة والدروس المؤلمة.
النبيل هو ذلك الشخص الذي يرى في الصمت حكمة، وفي الابتعاد رفعة، وفي كتم الحزن قوة. إنه يختار الطريق الأصعب، لكنه الأجمل، حيث يمضي قدمًا برأس مرفوع وقلب مليء بالسلام والطمأنينة. هذا هو النبل الحقيقي، ثمنه باهظ، لكنه يستحق كل تضحياته.
في عالم اليوم، قد تبدو هذه القيم بعيدة المنال أو غير عملية للكثيرين. في ظل مجتمع يميل إلى الرد السريع والدفاع العنيف عن الحقوق، يُعتبر الصمت أحيانًا علامة ضعف. ولكن النبيل يعرف أن قوة الصمت تفوق صخب الكلمات. إنه يدرك أن الصمت في وجه الجهل هو أفضل رد، وأن الابتعاد عن الجدل العقيم هو أسمى أنواع الحكمة.
النبيل يختار أن يرفع نفسه فوق الصغائر، فلا ينحدر إلى مستوى من يحاولون جرّه إلى مستنقع النزاعات الشخصية. إنه يركز على الأهداف الأكبر، وعلى السعي نحو تحقيق رسالته في الحياة. هذا السلوك لا يأتي من فراغ، بل من إيمان عميق بقيمة الإنسان وكرامته. إنه يؤمن بأن النفس الكريمة لا تُذلّها كلمات، ولا تُحطمها تصرفات الآخر، بل تظل دائمًا وفية لمبادئها وسامية في تعاملها.
هذه المبادئ ليست مجرد نظريات فلسفية، بل هي دروس عملية يمكن تطبيقها في حياتنا اليومية. عندما نختار أن نصمت ونحن نستطيع الخوض، وعندما نبتعد بهدوء عن المناقشات التي لا جدوى منها، نحن نحافظ على سلامنا الداخلي ونمنح أنفسنا الفرصة للتركيز على ما هو أكثر أهمية.