عبدالوهاب الفايز
ودار الحديث بين الأصدقاء في المجلس حول مظاهر الفوضى في الطريق، ثم انتقل إلى المناسبات العامة والزواجات، وهنا قال السيد الوقور النبيل الذي تجاوز السبعين حين جاء النقاش حول الفوضى والزحمة في الأفراح: (والله أنا اضطريت أذهب مباشرة إلى حيث يوجد السلام ثم أتقدم ونبارك.. وهكذا مرت الأمور بسلام، فبعد العملية في الركبة لا أستطيع الوقوف فترة طويلة الصف الذي لا تعرف أوله من آخره).. هكذا قال في شيء من الأسى والألم في صوته: (وهذا والله ما أفضله، فأنا اخجل أن أتقدم الناس، عيب والله عيب!).
فعلا، لماذا يضطر هؤلاء النبلاء الفضلاء الكبار، وهم القدوة الحسنة في الأفعال والأقوال، إلى هذا السلوك الذي يجرحهم؟ لماذا يضطر المواطن الذي يجتهد على حاله ليكون صالحا مسالما إلى تجاوز حقوق الآخرين في الفضاء العام؟!
الإجابة على هذا السؤال الكبير لن تكون سهلة، ولكن المدخل العملي الموضوعي الذي تسمح به متطلبات السلام الاجتماعي وتتيحه مسؤوليات الدولة تجاه مواطنيها، هذا تخدمه مبادرتنا إلى تبني (برنامج وطني طويل المدى للتربية الوطنية). هذا هو الأفاضل حتى لا تصبح (الفوضى أسلوب حياة!) نتعايش معها ونقبلها كحقيقة. هذا أمر غير حضاري ولا يخدم السلام والوحدة الوطنية.
حينما تكبر المدن وتتوسع فيها الأنشطة والتفاعلات الاجتماعية والثقافية والرياضية، وتتوسع الأماكن العامة التي تجمع الناس، وتدخل منظومة النقل العام، ويستمر انتقال الناس من الأرياف والمدن الصغيرة إلى الحواضر الكبرى.. هنا تصبح حياة المدن أمام تحديات جديدة. ومواجهة هذه التحديات يتم استيعابها واستثمارها بالآيات الذكية التي جعلها داعم للسلام وللاستقرار الاجتماعي، حتى لا تكون الحياة في المدن المليونية الكبرى التي تتعدد فيها الثقافات والمرجعيات صعبة ومكلفة نفسياً ومعقدة اجتماعيا.
أحد الآليات الحضارية التي تساعد على تنشئة (المواطن الصالح)، الذي هو عماد ومبتغى الحكم الصالح، يتم عبر استثمار (التربية الوطنية). هذا المسار حق سيادي أصيل للدولة، ويتم عبر المناهج التعليمية التي تزرع قيم التربية الوطنية ومستهدفاتها منذ المراحل العمرية الأولى، وتستمر تطبيقاتها في مختلف جوانب الحياة من خروج المواطن من بيته وحتى عودته. تربية من الباب إلى الباب، عند المساجد، وفي الأفراح والأتراح، وفي الطريق وحتى عند المصاعد. نعم عند المصاعد، وهذا ما بلغته اليابان في مشروع التربية الوطنية، فهي البلد الوحيد في العالم الذي يصطف الناس في طابور منظم عند المصاعد انتظارا للدخول أو الخروج.
هذا ما نتطلع الوصول اليه، وهو ليس صعبا أو بعيدا. بذرة الخير ونزعة العدل مع النفس، وقيم الإيثار والاحترام موجودة. انظروا إلى الناس في المساجد، كل واحد يُقدم غيره في الصف وقد يصل الإيثار إلى أغلظ الإيمان. ولكن هؤلاء - بسبب غياب التربية الوطنية - عندما يخرجون إلى الشارع يتلبسهم شعور آخر عجيب، ينتقلون إلى تجاوز الحقوق والعنف وقلة الأدب مع الآخر!
حتى نجعل الالتزام والاحترام المتبادل بين الناس للنظام وللحقوق والواجبات (أسلوب حياة) يمارس بتلقائية نابعة من السلوك الإيجابي، نحتاج برنامج متكامل يأخذنا إلى دمج القيم الدينية والأخلاقية والمبادئ التربوية في حياتنا اليومية وفي العلاقات الاجتماعية. السؤال المهم كيف نحقق هذا؟ وهنا نفكر بصوت عال لأجل توليد وعصف الأفكار، لا نقترح هنا امراً جامعاً، فهذا له خبراؤُه ومتخصصوه الأعراف بالبناء والتأسيس.
نتطلع إلى (برنامج وطني للتربية الوطنية) أن يأخذنا إلى بناء (القدوة الحسنة) لكي نتعلم بالممارسات والسلوك الفعلي. في الواقع الآن، هذا هو الذي يؤلم الكبار النبلاء الوجهاء عندما يضطرون إلى تجاوز النظام أمام أعين الناس. هم يرون أنفسهم كـ (قدوة). وخوفهم على مكانتهم ربما يبعدهم عن حضور المناسبات العامة إذا عرفوا أن الفوضى سيدة الموقف، وفي هذا خسائر اجتماعية. نحن نفرح برؤية الشيوخ والكبار في المناسبات لان هذا يذكرنا بقيم الوفاء والتراحم والتواد.
لتربية الناس على احترام النظام العام في الفضاءات العامة مثل الأسواق، المطاعم، والمقاهي، يمكن في محتوى البرنامج المقترح للحكومة أن يتضمن مجموعة من الاستراتيجيات والتدابير الهادفة لتوعية الناس وتعزيز سلوكيات الاحترام والانضباط. مثلا، ربما نحتاج مشروع للتوعية الإعلامية من خلال التلفزيون، وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلانات في الأماكن العامة. هذه الحملات تركز على أهمية احترام القوانين والأنظمة.
وحتى تتواصل الرسالة ربما نحتاج وضع لافتات واضحة في الأسواق والمقاهي والمطاعم تشرح القواعد الواجب اتباعها مثل الحفاظ على النظافة، احترام الطابور. نحتاج الأنشطة التي تحفز على السلوك الإيجابي عبر المكافآت مثل تقديم شهادات تقدير أو مكافآت رمزية للمؤسسات أو للأفراد الذين يلتزمون بالقواعد العامة ويظهرون سلوكيات إيجابية، مع تسليط الضوء عليهم تقديرا لاحترامهم للنظام. الوضع القائم يكافئ من يتأخر عن الموعد المحدد، وهناك من يغض الطرف عن المتجاوزين للنظام في الطريق!
أيضاً لتشجيع الناس على السلوك الحسن وتعزيز احترام النظام العام، هذا يتطلب توفير بنية تحتية للخدمات مع تنظيمها في جميع المرافق العامة، ونقصد توفير الآليات والأدوات التي تسهل وتساعد التنظيم مثل إدخال الأجهزة التي تعطي ارقام الانتظار في المستشفيات والبنوك. أيضا وضع محددات المسارات الواضحة التي تساعد على انتظام الطابور. وهذا يمكن تحقيقه في الزواجات عبر (إلزام الفنادق وصالات الأفراح) بضرورة توفير خدمات الترتيب والتنظيم للحضور. ويمكن إضافة هذه التكلفة مقابل اقتطاعها من فاتورة المأكولات والمشروبات التي قد تنتهي إلى النفايات. هناك إجراءات سهلة تمنع الازدحام وتسهّل الحركة، مثل توفير مسارات محددة للمشاة ولوحات إرشادية واضحة. هذه أمور بسيطة وغير مكلفة، ولكن أثرها على الصورة الحضارية لبلادنا كبيرا خصوصاً في الأسواق والأماكن العامة.
في إطار هذا البرنامج ولأجل تحقيق مكتسبات سريعة، يمكن ادخال برامج أو أنشطة غير صفية في المدارس عن النظام العام لتعليم الطلاب أهمية النظام واحترامه عبر تنظيم برامج ومسابقات ترفيهية تربوية في الأماكن العامة. وربما نعزز هذه بتشجيع الجمعيات الاهلية الخيرية على تبني مبادرات مع المجتمعات المحلية لتنظيم مشاريع توعية في الأسواق والأماكن العامة، وعند المساجد.
أيضا نحتاج تحفيز المواطنين للتبليغ عن المخالفات في الأماكن العامة، سواء عبر تطبيقات الهاتف المحمول أو خطوط ساخنة، ولدينا تجارب ناجحة في هذا المسار. أيضا الغرف التجارية واجبها تنظيم ورش عمل وتدريبات لأصحاب الأعمال حول كيفية فرض النظام داخل منشآتهم، ودعوة المؤسسات التجارية لتدريب موظفيها على التعامل مع الجمهور بشكل يضمن الالتزام بالنظام واحترامه.
ثم نأتي إلى جانب لا يقل أهمية وهو فرض هيبة النظام لمعاقبة وردع السلوكيات السلبية مثل تجاوز الطابور، أو إلقاء النفايات في غير مكانها، أو إحداث الضوضاء الزائدة، أو التدخين في الأماكن الممنوعة. لدينا أنظمة صادرة تغطي جميع هذه الجوانب. ضروري وجود التطبيق الفوري للغرامات على المخالفات البسيطة لان الهدف هو التربية وإحداث الأثر الفوري. ففرض القوانين واللوائح بصرامة مع وجود فرق الامن والمراقبة مهم لكي نضمن تطبيق القوانين وتوجيه وتنبيه المخالفين عند الضرورة.
من خلال تطبيق هذه المقترحات، يمكن للأجهزة الحكومية أن تساهم في خلق ثقافة في المجتمع قائمة على احترام النظام العام، وهذا يضمن جودة الحياة ويضمن تجربة إيجابية للجميع في الفضاءات العامة.
أخيرا نقول.. وحتى لا تكون الفوضى أسلوب حياة، واجبنا تجاه الأجيال الحالية والقادمة أن نجعل التربية التربية الوطنية التي تؤسس للسلام والاستقرار الاجتماعي مقدمة على تكوين الثروة. الجيل الأول من التجار الذين بنوا الكيانات الكبرى كان همهم التربية الدينية والأخلاقية للأبناء والبنات قبل تعليم مهارات التجارة والكسب. وهكذا كانت الدولة في بدايات تأسيسيها، الملك عبد العزيز رحمه الله وضع الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي في الأساسيات لإدراكه أهميتها للدولة، وهذا الذي نتمنى البناء عليه وتكريسه عبر (برنامج وطني للتربية الوطنية) يضاف إلى برامج الرؤية.