د. عبدالحق عزوزي
كان والدنا العلامة ادريس عزوزي، رحمه الله، يمثل بحق الأبوة المثالية في نسقها وفكرها وتوجيهها وتربيتها ومهامها؛ وتعتبر الوالدة، الحاجة زهرة، بؤرة هذه الأسرة في بناء سعادتها وامتداد تساكنها وتلاحمها... والأسرة العزوزية حباها الله بأم فاضلة، ومربية أمينة، ومضحية كبيرة، كانت أمينة السر التي لم تفارق يوما الوالد، ونهضت بمسؤوليات البيت، وتفرغت لتربيتنا، وبحضورها البيتي برزت مجتهدة وبطريقة عفوية وفطرية في منهج تربيتنا وتعليمنا أسس الحياة والتوحيد والإيمان والتوكل....
وبما أن الإنسان ابن بيئته كما يقولون، فإن والدنا العلامة الدكتور ادريس عزوزي، رحمه الله، كان مغربيا غيورا حتى النخاع، تقرأ ذلك في بيته وفي سلوكه، وفي متناولاته، فهو إذن من صميم البيت الأصيل، وهو معتز بأسرته مشدود إلى أبنائه، إلى بيته الذي يجد فيه سيدة فاضلة تنتمي إلى أسرة وطنية جاهدت وكافحت، سيدة واصلة...
بلغ الوالد رحمه الله رسالته الأبوية والعلمية والدينية بإخلاص وتفان وانضباط، وعرف هذا الإخلاص والتفاني والانضباط كل من تتلمذوا عنه وعايشوه أو سمعوا عنه، وكانت ملامحه ملامح تنم عن البراءة والوداعة والفطرة والاستقامة.. زد على ذلك أنك تجد فيه نموذج المحاور الذي يعطيك ولا ينتظر التعويض، ويبادلك الرأي ولا يحافيك.. وزد على ذلك افترار الثغر وخلق التواضع الذي كان يزيد في قيمته وصيته، ومن ثمت اكتسب محبة الجميع، وتقدير الجميع.
وكان - رحمه الله- يعيش مع طلبته ومن يحضر مجالسه وكأنه واحد منهم، يؤانسهم ويستشيرهم؛ وكان والدي، وقد لازمته فضيلة إنما تلزم كبار القوم، تلك أنه يتعمد تقديم مساعديه للناس وتقديرهم أمام الملأ على أنهم قادرون على العطاء حيث يشعرون بأنهم فعلا أكفاء ولا يلبتون أن يصبحوا مواطنين نافعين.
وهناك فضيلة أخرى أذكرها، إنه لا يجامل في سبيل أن يقول كلمة حق يراها، أو قولة صدق يجهر بها (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله)... ولا أعلم أنه تدخل في شأن إلا أن يكون في صالح المواطنين...
وكان ملازموه يقولون عنه «إنه سيكون من أمره ما يكون»، وبالفعل فقد أمسى الوالد يطل على معارج الكمال، وقد حضر الناس له مجالس علمية كان فيها شامخا متفوقا على الذين كانوا يهابون اقترابه من موقعهم أو اقتحامه، وكان يخطو خطواته في تؤدة وثقة بالنفس عالية وبتواضع جم وأريحية منقطعة النظير.
دفن والدنا، رحمه الله، بجوار قبر أبي بكر بن العربي المعافري (مات سنة 534ه) (وأبو بكر بن العربي المعافري هو الذي قال عنه ابن سعيد : هو الإمام العالم القاضي الشهير فخر المغرب، أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، قاضي قضاة كورة إشبيلية، ذكره الحجاري في المسهب، طبق الآفاق بفوائده، وملأ الشام والعراق بأوابده، وهو إمام في الأصول والفروع وغير ذلك)؛ ودفن والدنا بجوار العديد من العلماء والمجاهدين من أمثال المجاهد عبدالعزيز اقضاض، حيث نصح الوالد بعدم أخذ السلاح أيام الاستعمار للجهاد، والاستمرار في طلب العلم، حتى إذا أخذ المغرب استقلاله وجد المغرب علماء مربين يمهدون سبل التشييد والبناء وييسرون أسباب الازدهار والنماء، وهم يتمثلون بصدق قول الله عز وجل (وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).
كان والدنا رحمه الله عالما ضليعا قوى العارصة، سريع البديهة؛ وكان يقول دائما بأن ذكر الله مقدم على كل أمر ذي بال، ومن لم يطع الله عزوجل فعمره عليه وبال، فحق على كل متعاطي أمرا أن يجعله مفتتحه ومختتمه؛ فما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من الصلاة ومن ذكر الله؛ لهذا كان يبدأ محاضراته في التفسير والحديث والفقه بمسائل تتعلق بالصلاة؛ وكان يوقظنا ويذهب بنا ونحن صغار السن لصلاة الفجر في المسجد وقراءة الحزب الراتب لأنه يعي بأن الأمة بوركت في بواكيرها، وبأن الراحة توجد في الصلاة؛ وسنبحث عن الطمأنينة ولن نجدها إلا في ذكر الله، وسنبحث عن الثقة ولن نجدها إلا مع الله وسنبحث عن السعادة ولن نجدها إلا في حب الله؛ وستبحث وستبحث ولن تجد السعادة إلا مع الله وبالله وفي الله؛ وإذا كان الله معك فمن عليك وإذا كان الله عليك فمن معك؟
وفي العقد الأخير من حياته، رحمه الله، كنت أسعد بمصاحبته في أسفار خارج الوطن في مصر والسعودية والإمارات.. للمشاركة في محاضرات وندوات علمية؛ وكان مقصد العلماء والمفكرين ومحط الأنظار لهيبته ووقاره؛ وكم مرة أدينا منسك الحج والعمرة سويا، حيث عايشت مكرمات حباه الله بها، واستمتعت بنصائح قل نظيرها؛ وكان الوالد رحمه الله بي رفيقا شفوقا، وكان لصحبتي له في هاته الأسفار وقربي منه الخير الكثير..
ونحن أبناؤه وجيلي والأجيال التي سبقتنا والأجيال المقبلة سنكون مدينين له بالكثير وبالشكل الذي لا نستطيع أن نوفيه حقه؛ فالله نسأل أن يرحمه ويجعل الجنة مثواه ويجعله في درجة النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.