د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
بدأ الأستاذ محجوب محمد موسى كتابه (تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة) بالفعل (جَرْجَرَ) وذكر معناه الشائع في العربية وهو الدلالة على صوت متتابع، «جَرْجَرَ، يُجَرْجِرُ، جَرْجَرَةً الجملُ: ردد صوته في حنجرته، وتَجَرْجَرَ الماءَ: صبّه في حلقه فصيّره يُصَوّتُ وهذا ما يُعرف (بالغرغرة)»(1). ولم يسلم الأستاذ من الخطأ منذ بدأ؛ فهو يفصل بين الفعل (جرجر) وفاعله (الجمل) بالفعل المضارع والمفعول المطلق مع إقحام فواصل لا حاجة لها، والصواب ما ورد في الجمهرة «جَرْجَرَ الفحلُ يُجرجِرُ جرجرةً، إِذا تضوَّر وتشكَّى»(2). ونجده عدّى الفعل (تجرجر) إلى الماء، والفعل لازم لأنه مطاوع (جرجر).
ثم أنكر على المحدثين استعمالهم (جرجر) امتدادًا للفعل (جرّ)، قال «ولكن كتّابنا وأدباءنا يستخدمون جَرْجَرَ بمعنى جَرَّ فيقولون: جَرْجَرْتُ قدميَّ، وجرْجَرَ قدميه. ولدينا كتاب ينطق بالحق والصواب ألا وهو القرآن الكريم الذي يقول: (وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) [الأعراف -150]. والشاعر يقول:
أتته الخلافة منقادةً
إليه تُجَرِّرُ أذيالها
فالصواب جَرَّ وجرَّرَ»(3). واستشهاده بالآية وبالبيت يصحح استعمال الفعلين المجرد (جرّ) والمزيد (جرّر)؛ ولكن لا يمنع استعمال الفعل (جرجر) بمعنى الجرّ المتكرر، والفعل في أصله ثنائي الجذر (ج/ر) ثمّ ضعّف ثانيه فصار الثلاثي (جرّ) والرباعي بتضعيف الجذرين (جرجر)، وهذا ما يسميه بن فارس المطابق، قال «وَلِذَلِكَ سَمَّيْنَا نَحْنُ مَا تَضَاعَفَ مِنَ الْكَلَامِ مَرَّتَيْنِ مُطَابَقًا. وَذَلِكَ مِثْلُ جَرْجَرَ، وَصَلْصَلَ، وَصَعْصَعَ»(4).
وهذا المعنى الحسيّ الأول، وهو ما ينكر الأستاذ على الناس استعماله، ولم يتنبه إلى أن (جرجر) دلّ على الرغاء ونحوه لأنه جرٌّ للصوت جرًّا متكررًا، فصار صفة له فاستغني عن المفعول به فلزم الفعل، فتقول جرجر البعير كما تقول رغى.
ومن بديع استدلاله قوله «والمدهش أنهم يقولون: الحصان من حيوانات الجَرّ ولا يقولون: من حيوانات (الجرجرة) فيقعون في (ثنائية) عجيبة فالجر صواب، فكيف لا يعملونه أينما وقع؟»(5). والجواب أنهم أرادوا مطلق الفعل، ولم يريدوا فعلًا خاصًّا هو تكرار الجر، فالأصل أن يكون الحصان للجر وهذا لا يمنع أن يجرجر إن كلف الجرجرة.
وهو يتوقف في مذهب الأستاذ التونسي قال «ولنا تعليق على الأستاذ/ محمد خليفة التونسي في كتابه القيم (أضواء على لغتنا السمحة)، ففي صفحة 145 وتحت عنوان فرعي هو (على وزن فَعْفَلَ(6)). يجوز كل ما جاء على هذه الزنة فمثلًا: نعش، ونعنش، قرش، وقرقش، مرغ، مرمغ، وما إلى ذلك مما شاع في العاميّة وتحاماه الكتاب، والأستاذ التونسي يريد لهم أن يجروه في كتاباتهم ما دام أصله فصيحًا»(7).
والأستاذ لا يتوقف في بناء (جرجر) بل في معناه، فهو لا يقبل استعمال العامة، قال «ولا شك في أن العوام قد قالوا جَرْجَرَ بمعنى جَرَّ وجَرَّرَ عملًا بهذا الوزن (فَعْفَلَ). ونحن لا نعارض هذا الوزن، بل ونطالب بإعماله لإثراء لغتنا السمحة الجميلة ولكن أما كان أحرى بالأستاذ التونسي أن يحترز قائلًا: يجوز إعمال هذا الوزن ما لم يؤد إلى معنى مغاير لما أريد»(8). وهو يذكر الاحتراز ليرد استعمال (جرجر) مع أنه يقبل نعنش من نعش، قال «فالفعل (نعش) الذي جاء في صفحة 146 جاء حديث الأستاذ عنه هكذا بالنص: (في الفصيحة: نَعَشَهُ الله ونَعَّشَهُ: جبره بعد فقر، وانتعشت حاله: حَسُنَتْ وطابتْ، ونقول هواء أو شراب مُنْعِشٌ، أي سار، يحدث في النفس خفّةً وراحة. ونقول في الدارجة: شراب أو هواء «منعنش» بالمعنى نفسه، ونعنشني أي أنعشني وحَسَّنَ حالي، فالمعنى واحد). هذا جميل فليس هنا ما يغاير هذا المعنى، أمّا جَرْجَرَ التي هي جرَّ قبل إعمال فَعْفل فيها فلها معنى لا يمت للجر بصلة وهو (تردد صوت الجمل في حنجرته)»(9).
وينتهي بعد ذلك إلى الجزم فيه فيقول «ومن هنا لا يجوز مطلقًا أن نقول بفعفل عاملة في الفعل جر حتى لا تؤدى إلى معنًى بعيد عما نريد بعدًا شديدًا .. فيا ليت أستاذنا قد احترز كي لا يُفتح بابُ (فعفل) لكل من هب ودب»(10). وما كان ليصل إلى هذه النتيجة لولا ما أسلفت ذكره من الغفلة عن الانتقال من المعنى الأول الحسيّ إلى المعنى المجازيّ، وهو أقرب من قول ابن سلام «وَقَالَ أَبُو عُبَيْد: فِي حَدِيثه عَلَيْهِ السَّلَام فِي الَّذِي يشرب فِي إِنَاء من فضَّة: إِنَّمَا يُجَرجِر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم. قَالَ أصل الجرجرة: الصوتُ وَمِنْه قيل للبعير إِذا صوَّت: هُوَ يجرجر»(11).
وصحح أستاذنا أحمد مختار عمر استعمال هذا الفعل في قولهم (جَرْجَرَه في الكلام) قال «يكثر التبادل في لغة العرب بين مضعَّف الثلاثي ومضعَّف الرباعي؛ وقد وردت لذلك أمثلة كثيرة في لغة العرب عند قصد المبالغة، كقولهم: دبَّ ودبدب، خرَّ وخرخر، حمَّ وحمحم، حصَّ وحصحص، فتّ وفتفت، كبَّ وكبكب، وقد أقرَّ مجمع اللغة المصري قياسيَّة هذا الوزن بناء على كثرة الأمثلة التي رصدها له؛ ومن ثَمَّ رأى تسويغ هذا الفعل في المعنى المستحدث»(12). وبناء (جرجر) عندي هو (فَعْفَعَ) «وقال الفراء، وكثير من النحويين، وزنه (فَعْفَعَ) تكررت فاؤه وعينه، وكذلك فعلوا في الفعل المكرر، نحو تَمْتَمَ وبَرْبَرَ»(13).
ولا خطأ في قول المحدثين: جَرْجَرْتُ قدميَّ، وجرْجَرَ قدميه.
**__**__**__**__**
(1) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، دار الإيمان/ الإسكندرية، 2003م، 1/7.
(2) جمهرة اللغة لابن دريد، 1/182.
(3) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، 1/7.
(4) مقاييس اللغة لابن فارس، 3/ 440.
(5) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، 1/7.
(6) اختلف في بناء الرباعي المضعف نحو (زلزل) فذكرت ثلاثة أبنية (فَعْلَلَ)، (فَعْفَلَ)، (فَعْفَعَ).
(6) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، 1/7-8.
(7) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، 1/ 8.
(8) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، 1/ 8-9.
(9) تطهير اللغة من الأخطاء الشائعة لمحجوب محمد موسى، 1/ 9.
(10) غريب الحديث للقاسم بن سلام، 1/ 253.
(11) أبنية الأسماء والأفعال والمصادر لابن القطاع الصقلي، ص: 111.
(12) معجم الصواب اللغوي، لأحمد مختار عمر، 1/290.
(13) أبنية الأسماء والأفعال والمصادر، لابن القطاع الصقلي، ص111.