أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
رأينا في المساق الماضي إصرار (ذي القُروح) على أنَّ السُّؤال الوارد في الحديث النبويِّ عن (الوَهْن)، في عبارة «فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوَهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ»، إنَّما هو عن خطأ روائي؛ لأنَّ السائل عَرَبيٌّ، ويَبْعُد أنْ لا يعرف عَرَبيُّ معنى كلمة (الوَهْن)؛ والصواب، بزعمه، أنه قال: «وفيمَ الوهن؟ أو لِـمَ الوهن؟». قلتُ، لإغاظته، وقد بَرِمَ بكثرة جدالي إيَّاه:
- يا (ذا القُروح)، ألا ترى أنَّ الإجابة دالَّةٌ على السؤال؟
- بمعنى؟
- الإجابة لم تَرِد بتفسير كلمة الوَهْن، كأن يقول: «الوَهْن يعني: الضعف»، بل بذِكْر سبب الوَهْن.
- وهذا هو سبب تشكُّكي في صيغة السؤال أصلًا.
- إجابة الرسول دالَّة على أنه فَهِم أنَّ السائل يستفسر عن السبب لا عن معنى الكلمة. ثمَّ ألا تَرِد (ما) إلَّا استفهامًا عن هويَّة المسؤول عنه؟
- ماذا تقصد؟
- أقصد أنَّ عبارة «وما الوَهْن؟» لا تعني بالضرورة: ما معنى كلمة الوَهْن؟
- كيف؟
- ألا ترى مثلًا إلى الآيات القرآنيَّة التي وردت فيها أداة الاستفهام هذه، من مثل قوله تعالى: «وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟»، أتراه كان سائلًا هنا عن تلك التي بيمينه، أي عن عصاه؟ أم هو لَفْتُ نظرٍ إليها، تمهيدًا وتوجيهًا إلى وظيفةٍ أخرى لها محتملة؟ أو قوله: «ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ، إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ؟»، في استفهامٍ استنكاريٍّ لا حقيقي. وكذلك يمكن القول في سؤال السَّائل عن الوَهْن: ما الوَهْن؟ أي ما حقيقة الوَهْن في تلك الحال؟ وما سِرُّ وجوده في الأُمَّة؟ أو قل: ما ذلك الوَهْن الذي يُقذَف في القلوب؟ وأنت تعلم أنَّنا نستعمل مثل هذه الصيغة البلاغيَّة حتى في اللهجات الدارجة، حينما نستغرب وجود أمرٍ من الأمور.
- تُذكِّرني بهذه اللَّجاجة في الجِدال بما يُحكَى من أنَّ قبيلة (تَغْلِب) قَدِمَ نصاراها على (عُمَر بن الخطاب)، فقالوا له، وقد استنكفوا من تعيير العَرَب إيَّاهم بدفع الجِزْيَة: يا ابن الخطاب، لا تُسَمِّ الجِزْيَة بهذا الاسم، وإنْ كُنَّا سندفعها! فقَبِل منهم عُمَر ذلك. ولمَّا انصرفوا، قال لجلسائه: ما أحمق القوم؛ يعترضون على الاسم ويَقبلون المسمَّى! فليكن ما قلتَه كذلك؛ لماذا تَدَع أساس الموضوع وتجادل في شواهده؟ أساس الموضوع أنَّ كثيرًا من المدوَّن في تراثنا لا يخلو من الخطأ والتصحيف، ولا قوام له إلَّا بضروب من النقد الداخلي للنصوص وسياقاتها.
- دع عنك هذا، واغفر لي لجاجتي. وعُد بنا إلى ذلك المِراء- الذي كنتَ توقَّفتَ عنده- من قِبَل مَن نعتَّه بالمعمَّم بالسواد، إذ يدلِّس في الشواهد القرآنيَّة، زاعمًا أنَّها دالَّة على أنْ لا بُدَّ من أنْ يؤمن الناس، وأنْ يهاجروا، فإذا تولَّوا، فلا بُدَّ من قتلهم!
- ذكَّرتني الطعنَ وكنتُ ناسيًا! ألا يرى هذا أنه في الآية من (سُورة التوبة)، وهي (مدنيَّة)، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقِينَ.» أتُراه يحثُّ على العدوان هنا؟ أم على الدفاع؟
- قُلْ أنت؟
- من سذاجة الفهم فهم المعنى الأوَّل. ذلك أنَّ الرسول لم يعاقب حتى أعداءه من كفَّار (قريش)، الذين نكَّلوا به وبالمسلمين، وقد قَدَر عليهم، وفتح دارهم، (مكَّة) عنوةً! ولذلك خُتِمت الآية بعبارة: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ المُتَّقِينَ.» بما تتضمَّنه هذه العبارة من معاني متضافرة، من: تقوى الله، واتقاء العَدُوِّ، واتقاء الله في العَدُوِّ أيضًا. فالله مع من يتحلَّى بهذه الصفات النبيلة جميعًا. بغضِّ النظر عن قول من قال، كالعادة: إنَّ الآية منسوخةٌ بآياتٍ أخَر، كالآية، من (سُورة البقرة): «وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّـهِ؛ فَإِنْ انتَهَوْا، فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»، ومن (سُورة الأنفال): «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِن يَنتَهُوا، يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ، وَإِن يَعُودُوا، فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ. وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ، فَإِنِ انتَهَوْا، فَإِنَّ اللَّـهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَإِن تَوَلَّوْا، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَوْلَاكُمْ، نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.» أو من (سُورة البقرة) أيضًا: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ؛ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ؛ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّـهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا، وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.» أقول: بغضِّ النظر عن القول بالناسخ والمنسوخ بين هذه الآيات، فإنَّ «القرآن» يفسِّر بعضه بعضًا، بلا حاجةٍ إلى التأويلات البعيدة والتفسيرات المتكاثرة، كما أنه يقيِّد بعضه بعضًا، في بناءٍ سياقيٍّ متكامل، شريطة أن يُؤخَذ بكُليَّته، لا مجزَّءًا، ولا مبتَّرًا، ولا بجعله عِضِيْنَ، كما نهى عن ذلك «القرآن» نفسه، في تنبيهٍ إلى عيوب القراءات المعتادة، التي تُفسِد النصوص ومقاصدها.
- بل إنَّ الآية السابقة لا تقتضي العدوان على غير المعتدين، بحالٍ من الأحوال.
- صحيح، لا نصًّا، ولا تطبيق نصٍّ. ثمَّ إنَّ (سُورة التوبة) تُختَتم كلُّها- وهي (مدنيَّة)، كما ذكرنا، ومن آخر ما نزل- بقوله تعالى: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ، عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ، حَرِيصٌ عَلَيْكُم، بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوْفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا، فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّـهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ.» فأين هُراء صاحبك (القبَّانجي) من هذا البيان الواضح؟!
- ربما كان له بعض العُذر في عدم الفهم اللُّغويِّ تحديدًا، فهو- كبعض المعمَّمين- يُذهلك بضعفه في اللُّغة العَرَبيَّة، وفهم الأساليب البيانيَّة، بل حتى في قراءة «القرآن» والنُّطق بكلماته!
- تلك ظاهرةٌ لا أدري كيف أفسِّرها؟ كيف يكون مثله، وهو خريجُ حَوزة، ومن عائلة دِينيَّة، ويُعَدُّ سيِّدًا من السادة، معتمرًا عمامة السواد، فيما هو يبدو في مستوًى شبيهٍ بالعامِّي، إنْ في اللُّغة، من حيث هي، أو في قراءة «القرآن»، أو في الفهم العام؟
- وإنْ كان لا يُنكَر أنه ذو فكرٍ معلوماتيٍّ، وعلى اطِّلاع ثقافيٍّ واسع.
- غير أنَّ فهم «القرآن» والخوض في تأويله يستلزم فهم كلام العَرَب فهمًا دقيقًا، والتبحُّر في أدبهم، ولاسيما إبَّان نزول «القرآن»، والتمكُّن من مقاربة الأساليب البلاغيَّة. فأنَّى لمن بضاعته مزجاة جدًّا في ذلك كلِّه الخوض في التفسير والتأويل والنقد؟ إنَّ في ذلك لجرأة، أشبه بالرعونة، لا على نصِّ «القرآن» فحسب، بل على العِلْم والمنهاج، قبل كلِّ شيء.
- أ يعني هذا أنك تقول بقول من يودُّون احتكار الدِّين، واحتناك فهم «القرآن»، تحت العمائم والقفاطين!
- كلَّا! فلا يعني هذا التسليم بحُجَّة من يشرئبُّون باسم التخصُّص في الشريعة من أجل تكميم الأفواه. أعني من يريدونها كهنوتيَّةً إسلاميَّة، على غرار من سَلَفَهم من أرباب الأديان، ممَّن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله؛ فجعلوا أحدهم «شيخ إسلام»، والآخر «حُجَّة إسلام»، والثالث «آية الله»!
أَلْقابُ مَمْـلَكَـةٍ في غَيْـرِ مَوْضِعِها
كالهِرِّ يَحْكي انْتِفاخًا صَوْلَةَ الأَسَدِ
- من أين استوردنا هذه الألقاب؟
- هذه الألقاب إنما جاءت تقليدًا للثقافة الدِّينيَّة النصرانيَّة؛ فظهرت في العالم الإسلامي وترسَّخت خلال عصور الانحطاط، ولاسيما بعد الحروب الصليبيَّة، على حين لم يكن هناك للإسلام شيخٌ ولا حُجَّةٌ ولا آية خلال الصدر الأول ولا ما تلاه. لسان حال هؤلاء الاتِّباعيين: إذا كان لدَى النصارى مرجعٌ يُلقَّبونه بـ(البابا)، فليكن لنا مرجع يُلقَّب بـ(شيخ الإسلام)، أو نحوه من الألقاب! فهو لقبٌ لا علاقة له لا بالمكانة العِلميَّة في ذاتها، ولا بالإسلام في فلسفته، التي لم يكن لها شيخٌ أصلًا، ولا حُجَّة، باستثناء (محمَّد بن عبدالله)، بَيْد أن هذا التتويج جاء وليد عقليتنا الاتِّباعيَّة، حربيًّا، وثقافيًّا، ودِينيًّا، في مواجهة الآخَر بمثل سلاحه، الحربيِّ والثقافيِّ والدِّينيِّ، ولو مجازًا.
- ثمَّ ترسَّخت تلك الكهنوتية بعد حين من الدَّهر، إذ مَرَدَتْ الأُمَّة على التقليد والترديد الأعمى!
- ولذا صار أمرًا مألوفًا أنْ إذا قال قائل كـ(مصطفى محمود) رأيًا، أو كـ(عدنان إبراهيم)، هبُّوا في وجهه: من أنت؟! يجب أن لا تلبس ربطات العُنق، هذا أوَّلًا! ثمَّ أن تَحْني ركبتيك لدَى عالم (ربَّاني)، ثانيًا. ولا بُدَّ أن يكون شيخك من نَمَطٍ نُقِرُّه نحن فقط، صافي العقيدة جِدًّا، وَفَق نظامٍ خاصٍّ من تحلية المياه المذهبيَّة! ومن بعدها عليك أن تتزيَّا بأزياء مدرستنا الخاصَّة! وإلَّا، من أنت، يا جاهل؟! وهذا هو الفكر الكهنوتي بعينه، الذي لا يؤمن بأنه: لا إكراه في الرأي، فضلًا عن أنه لا إكراه في الدِّين! لكأنَّ مَن نزل عليهم «القرآن» من الأُميِّين كانوا من خريجي جامعة إسلاميَّة ما! مع أنَّ أولئك الأُميِّين هم الذين فهموا المنزَّل حقَّ فهمه، وطبقوه بقدر الطاقة، ففتح الله عليهم العقول وبلدان العالم، على الرغم من كلِّ ما كان بينهم تاريخيًّا، بوصفهم بشرًا، لا أنبياء ولا ملائكة!
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى- الأستاذ بجامعة الملِك سعود)