أ.د.صالح معيض الغامدي
السيرة الذاتية التجميعية هي السيرة الذاتية التي تُجمع حول حياة إنسان معين من خلال كتاباته الذاتية المتعددة، وينجز هذا النوع من السيرعندما نقوم بجمع كل النصوص المتفرقة التي يتحدث فيها الكاتب عن نفسه وتجاربه الحياتية بطريقة أو بأخرى وفي سياقات، ومقامات مختلفة ومتفرقة، ثم نقوم بتصنيفها بطريقة معينة، وفق المنهج السيرذاتي البنيوي الذي نختاره، في فصول محددة. ويمكن أن نضيف شعره، إن كان صاحب السيرة الذي نعنى به شاعرا، مصدرا مهما لبناء سيرته الذاتية التجميعية.
ويمكن أن نضرب مثالا على هذا النوع من السير الذاتية المجمعة المحتملة بسيرة أبي حيان التوحيدي، فقد تحدث التوحيدي عن نفسه وتجاربه الحياتية في أماكن متفرقة كثيرة من كتبه، بحيث يشكل مجموعها سيرة ذاتية شائقة ومثيرة.
وهناك عادة ثلاث طرق أو استراتيجيات لبناء سيرة مجمعة:
1- أن نقوم بجمع كل ما قاله الكاتب عن نفسه وحياته في كتاباته، ثم نعيد ترتيبها وفق منهج معين، غالبا ما يكون تاريخيا تدرجيا، وتكون هذه السيرة مروية بضمير المتكلم كما رواها صاحبها تماما، وهذه سيرة ذاتية تجميعية.
2- أن نقوم باختلاق بنية سردية معينة لحياة الشخص الذي نعنى بسيرته ونمزج في رواية هذه السيرة بين ضميري الغائب والمتكلم، فنختلق ساردا يروي قصة حياة هذه الشخصية، ويضمن روايته مقاطع نصية سيرذاتية كثيرة من كتابات صاحب هذه السيرة أو من كلامه المنقول عنه مباشرة في مصادر معينة، وهذا ما نجده كثيرا في كثير من كتب التراجم والسير، مثل كتاب الأغاني للأصفهاني، وكتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة ومعجم الأدباء لياقوت الحموي وغيرهم.
3- أن نجمع ما كتبه الكاتب الذي نعنى به أو ما قاله عن حياته ثم نقوم بإعادة صياغته في بنية سردية سيرية نختارها نحن وفق معايير معينة، ونضيف إليها ونفسرها أو نؤولها كما نشاء، ونستنتج منها أيضا ما نشاء. وغالبا ما يأتي هذا الضرب من السير مسرودا بضمير الغائب، وهذا النوع يطلق عليه عادة السيرة الغيرية.
وإذا كان هذا النوع الثالث وإلى حد كبير النوع الثاني لا يثيران إشكالات كثيرة، فإن النوع الأول مقترن دائما بإشكالات هي مثار اختلاف بين الدارسين وحتى بين القراء العاديين.
وأول إشكالية يطرحها هذا النوع هي إشكالية المشروعية. فهل يحق لنا أن نجمع ما قاله شخص ما عن حياته في أماكن متفرقة وفي أزمنة مختلفة ونعيد ترتيبه ليخرج لنا في صيغة سيرة ذاتية، لم ينوها في الغالب هذا الشخص ولم يتعمد جعل ما يكتبه عن نفسه سيرة ذاتية له عندما كتب ما كتب أو روى ما روى عن حياته؟ فالقصدية السيرذاتية غائبة تماما أو قد تكون في أحسن الأحوال ضبابية، وبالتالي يغيب العقد السيرذاتي اللوجوني، ويصبح التجنيس السيرذاتي الجديد لكتابات هذا الشخص وأقواله مفروضا وقسريا، وربما تكون القراءة التي ستتبع ذلك قسرية هي أيضا.
وكنت عندما بدأت الاهتمام بالسيرة الذاتية العربية القديمة قبل ما يقرب من أربعة عقود من الزمن قد استبعدت السيرة الذاتية التحميعية من المفهوم الذي تبنيته للسيرة الذاتية آنذاك، كونها غير مشروعة ومختلقة، إلا أنني الآن ربما أبدي شيئا من المرونة في مسألة النظر إليه بوصفها ضربا من «السيرة الذاتبة المتواطئة» بين صاحبها وبين قرائه لأسباب واعتبارات يطول شرحها في مقال كهذا، ولكن السبب الرئيس الذي يكمن وراء هذا التواطؤ فيما اقترح هو التخفيف من وطأة الأنا التي تظهر في السيرة الذاتية العادية وبخاصة عند الكتاب القدامى، والرغبة في التخفي من خلال أسلوب التشتيت السيرذاتي ، وربما لعب التحقيب دورا في ظهور السيرة الذاتية المجموعة أو التجميعية بهذا الشكل المتفرق، فالكاتب يكتب عن حياته في كتبه في مراحل عمرية متعددة وكل كتابة أو كلام في مرحلة معينة يحكي طبيعة حياة الفرد في تلك المرحلة.
بقي أن أضيف أن التجنيس السيرذاتي في السيرة الذاتية التجميعبة هو تجنيس قرائي وليس تجنيسا كتابيا إبداعيا، فالقارىء أيا كان هو في الغالب الأعم من يقرر أن ينظر إلى هذه النصوص الذاتية المتفرقة بوصفها سيرا ذاتية لأصحابها.