د.نادية هناوي
لكرة القدم سحرها الخاص كلعبة جماعية فيها يكون الجمهور جزءاً مهماً منها، مشاركاً اللاعبين لعبهم بطرق مختلفة، فمرة محرضا مشجعا، ومرة أخرى مقرعا موبخا. وغايته مؤازرة فريقه، وشحذ حماسته ورفع وتيرة معنوياته. ولا نكران للتأثير النفسي الذي يتركه الجمهور في معنويات اللاعبين، بل قد يكون الجمهور من العوامل المؤثرة في نتائج المباريات. فالكينونة الرياضية المحضة للعبة يمكن أن تشاطرها كينونات أخرى ولائية أو ذاتية وقد تكون تاريخية تُستحضر فيها أمجاد الأسلاف وبطولاتهم وقد تكون جغرافيّة تبدأ بحميمية الزقاق والمحلة وتنتهي بالانتماء إلى الأقاليم والبلدان والقارات.
ويذهب كثيرون إلى أن لعبة كرة القدم مثل الحياة أو هي حياة، فهي سردية مكتملة الأركان والعناصر وفيها التخييل حاضر حد اندماج الجمهور مع مجريات اللعبة وهو في مكانه على المدارج.
ولكرة القدم فواعلها البشرية وغير البشرية، فأما البشرية فيمثلها اللاعبون بحركاتهم وتنقلاتهم ومواقعهم وألوان ملابسهم ومهاراتهم ثم الجمهور بكثافتهم وهتافاتهم وتصفيقهم وتفاعلهم ثم المعلق الرياضي وقوة تعابيره وإيقاعية صوته، وأما الفواعل غير البشرية فالجوامد بدءاً من أرضية الملعب ولوحة الأهداف وعارضات الإعلان وخطوط اللعب ومروراً بمدرجات الملعب ومقصورة الفريق وصفارة الحكم وألوان ملابس الفريقين والعشب الأخضر وانتهاء بلوحة الأهداف والكأس والميداليات.
إن معادلة كرة القدم بالحياة، التفت عدد من الكتّاب إليها، وكشفوا عنها كمتخيل سردي لاسيما أن تاريخ هذه اللعبة ضارب في القدم إلى ما قبل الميلاد، فعرفها الاغريق والصينيون واليابانيون والمصريون في شكلها الابتدائي. وما يميز لعبة كرة القدم أنها لعبة جماعية وجماهيرية، وتتعادل موضوعيا مع الواقع الحياتي، يقول جورج لوكاش: (الإنسان يلعب فقط حين يكون إنسانا بالمعنى الكامل للكلمة، ولا يكون الإنسان إنسانا تماما إلا حيث يلعب) (دراسات في الواقعية، ص11).
وعلى الرغم من ذلك، فإن عدد الكتّاب الذين التفتوا إلى هذه اللعبة وكشفوا عن تلك التعادلية في شكل متخيل سردي قصصي أو روائي يعدون على أصابع اليد. وفي طليعة هؤلاء الكتّاب بيتر هاندكه في روايته (خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء) وصدرت عام 1969 باللغة الإنجليزية. وبطلها يوزف بلوخ حارس مرمى، سحرته كرة القدم فلا يرى أي شيء إلا من خلال الكرة، ولا يسيّر أموره الحياتية إلا بذاكرة تتحرك فيها الكرة في كل الاتجاهات، فهي تنزلق منه كلما استقل سيارة الأجرة أو تكلم مع موظف الاستقبال أو دفع النقود إلى عاملة الكاشير (عندما وضع بلوخ العملة الورقية على طبق الكاشير اهتزت الورقة أثناء الدوران وكانت هناك فرصة لبلوخ كي يقول: هل سيسمح الحكم باللعب الإضافي؟) (الرواية، ترجمة أحمد فاروق، 1996، ص8).
والسارد في الرواية عليم يعرف ماضي البطل ومستقبله، وينقل وجهة نظره إلى الحياة من زاوية خلفية فيها كرة القدم هي الماضي، مستبطنا دواخله وراصدا حركاته، واضعا إياه تحت التأثير السحري للكرة (ومع صفارة النهاية تقريبا والتي تكونت من ثلاث صفارات طويلة متفرقة صعد السائقون والمحصلون إلى الاوتوبيسات وعربات الترام وخرج الناس جريا ثم توهم بلوخ أنه يسمع الضجيج الحادث نتيجة سقوط زجاجات البيرة على أرض الملعب) ص9. ولا يكون بلوخ في موقف ما من المواقف أو في مشهد ما من المشاهد إلا وذاكرته تؤثر فيه وتجعله يتصرف كحارس مرمى عليه أن يحافظ على شباكه نظيفة خلال اللعبة في إشارة إلى أن اللعبة هي الحياة، والإنسان فيها لاعب فأما يكون ماهرا ويربح وأما يكون خائبا فيخسر.
وبسبب هذه الذاكرة التي يصفها السارد بالمنزلقة، يصادف بلوخ كثيرا من المفاجآت ويقع في متاعب ومفارقات، فالمطعم يراه ملعبا لكرة القدم، والأضواء يجدها سببا في سوء حال حارس المرمى، وحقيبة السفر ليس فيها سوى (كأسين وكان آخر الكؤوس التي حصل عليها فريقه وميدالية وحذاءين ذهبيين) ص18. وتنتبه إلى تصرفات بلوخ فتاتان كانتا كلما تذكر بلوخ أمرا كضربة ركنية أقرها الحكم أو كسرا تعرضت له أضلاعه أو شفته التي انشقت في أثناء صد الكرة، فإنهما تقابلان ذاك بأمور تطبقانها على صديقهما الذي يعمل نجارا.
لكن ذلك لم يشغل بال بلوخ فكل شيء بالنسبة إليه مضحك، ولأن الأشياء تتراءى له في معناها المجازي، استمر على هذه الحال حتى وصلت عقدة الرواية إلى ذروتها بمرأى لاعب يراه بلوخ يركل الكرة، وهنا يستبق بلوخ المشهد في مخيلته قائلا: (عندما جرى اللاعب أشار حارس المرمى بجسمه رغما عنه وقبل أن يركل الكرة إلى الاتجاه الذي سيرمي بنفسه ناحيته ويستطيع الراكل بهدوء أن يسدد الكرة في الاتجاه الآخر ومع ذلك يستطيع الحارس جيدا أن يحاول إغلاق الباب بعصا من الغاب) ص80 ولكن السارد العليم يباغت بلوخ استباقه ويخيّب له توقعاته من خلال استعمال المفارقة فيكون اللاعب الراكل (الذي ارتدى بلوفر أصفر زاهيا، ظل واقفا بلا حركة وسدد له الراكل الكرة في يديه) ص80 وفي هذا الختام إشارة إليغورية إلى أن مصير الشخصية ليس بيدها وهي لا ترسم مصيرها بنفسها، بل السارد العليم هو الذي يصنع لها مصيرها. وما هذا الخوف من ضربة الجزاء سوى خوف الإنسان من القدر.