أ.د. محمد خير محمود البقاعي
ولما انتهينا ساعدته كالعادة في غسل الأواني وتنظيف الطاولة، واتخذ كل منا مكانا في الصالون أمام التلفاز لرؤية فيلم فرنسي نسيت عنوانه، وما زلت أذكر تفاصيله عن قصة شاب في الثلاثينيات يعيش مع أمه، مولع بكتابة الرواية، ولما أنجز روايته الأولى تواصل مع دار نشر فطلبوا منه إرسال نسخة من الرواية وبعد مدة طلبوا منه أن يراجعهم لمناقشة إمكانية نشرها، ولما وصل إلى مقر دار النشر وجد هناك سيدة في مثل سنه تقريبا بادرته بملاحظات عامة استغرقت بعض الوقت ثم أعادت له نسخة الرواية مع الاعتذار عن النشر مما جعله لا يحير جوابا، ويقرر العودة في ليل يوم وصوله مكتفيا بفنجان القهوة الذي ارتشفه في دار النشر، ويبدو أن التعب والنعاس أنهكه فتعرض لحادث مميت في طريق عودته ولما علمت والدته بالأمر انغمست في لجة من الحزن العميق وعندما حملوا إليها السيارة في اليوم الثاني وبعد دفن الجثة أرادت أن تأخذ من السيارة حاجيات ولدها وجدت جهاز تسجيل صغير سجل عليه الشاب خفية الحوار الذي دار مع السيدة ولما استمعت إليه ازدادت حزنا وألما، وأيقنت أن سبب الحادث حزن ولدها وهو يستمع في أثناء القيادة للتسجيل فقررت أن تنتقم لولدها ليس بالقتل وإنما برد الاعتبار لموهبته الإبداعية. كان اسم سيدة المقابلة مدونا في دفتر صغير وفيه أرقام دار النشر فاتصلت بهم بعد أيام من الحادث، وقد هدأ روعها قليلا وطلبت الحديث مع مدير دار النشر وعرفت بنفسها على أنها كاتبة روائية وتريد أن تنشر رواية على أن تتحمل تكاليف الطباعة فضلا عن مكافأة مجزية لمن يساعدها في قراءة الرواية وتنقيحها في بيتها لصعوبة انتقالها، وحددت اسم من تريد للمهنة على أن تقيم عندها مدة القراءة ففي بيتها متسع، وفي مالها وفرة لدعم الدار ومكافأة السيدة. وجدتها دار النشر فرصة للكسب وأغرت السيدة المطلوبة بمال المرأة فأعطوها العنوان، وقررت السفر للقاء المرأة التي أعدت العدة لاستقبالها. بدأت المرأة بسرد أحداث رواية ولدها والموظفة تستمع إليها واستغرق ذلك يومين اكتشفت الأم بعدها أنها لم تقرأ الرواية، وأن رفضها لها بدون وجه حق كان سببا في حادث ولدها فاستشارت محاميا فنصحها برفع قضية على دار النشر، فبادرت وجرت المحاكمة التي انتهت لصالح الأم وقضت المحكمة بأن تدفع للأم تعويضا فأسست الأم بالمبلغ دار نشر، وبدأت فنشرت رواية ولدها التي لقيت رواجا وبدأت بنشر الروايات الأولى للكتاب المبتدئين.
سارعت إلى النوم وفي صباح اليوم التالي غادرت مع فيليب الذي أوصلني إلى الجامعة فالتقيت بأستاذي البروفسور أنور لوقا وبعض الأصدقاء من زملاء الدراسة. قضيت ثلاثة أيام في ليون غادرت بعدها إلى إكس، وما لبث أن بدأ الفصل الثاني وبنهاية الشهر الأول أبلغتني إدارة الجامعة بتوقف المخصصات المالية لوظيفتي في العام الدراسي 1991م. وسارعت في مساء اليوم إلى إخبار أستاذي فهون علي وقال: إنه سيتابع الأمر حاول البروفسور جيليو والسيدة أدبير ومسؤولة برامج اللغة العربية ولم تفلح تدخلاتهم بسبب العائق المادي الذي لا يد لإدارة الجامعة فيه.
كان الوقت يمر سريعا وقارب الفصل على الانتهاء، وبدأ القلق يتسرب إلى نفسي، وفي مساء أحد الأيام وكنت في زيارة البروفسور جيليو رن جرس الهاتف فحاولت الابتعاد فلعله اتصال خاص ولكنه قال مرحبا: تحياتي برفسور رومان وأشار إلي أن أبقى في مكاني ثم دار بين الرجلين حديث قصير فهمت منه أن الأمر متعلق بي، فاستبشرت خيرا عندما أعطاني جيليو سماعة الهاتف وسمعت أستاذي من الطرف الثاني يقول: كنت أمس في مدينة غرونوبل في جامعة ستاندال في اجتماع لاعتماد وظيفة تسمى (ملحق مؤقت للتعليم والبحث = attaché temporaire d›enseignement et de recherche ). وكان القائم على تدريس العربية في الجامعة أحد طلابي فاستطعت إقناعه باختيارك بعد أن اتضح أنك الوحيد بين المتقدمين الذي تنطبق عليه الشروط كلها.
وأخبرني أن علي السفر إلى غرونوبل لترتيب الأمور مع السيد « بنوا دي لاند» مسؤول البرنامج وأملى علي رقم هاتفه، شكرت لأستاذي حرصه واهتمامه، ورأيت معالم السرور على وجه البروفسور جيليو الذي ما إن أنهى أستاذي المكالمة حتى بادر إلى التعبير عن سروره قائلا: إن من ميزات هذه الوظيفة أن المتقدم إذا استطاع مناقشة رسالته في السنة الأولى من عقده فيمكن أن يجدد عقده لأربع سنوات وأن شعبة العربية في غرونوبل ليس فيها من المدرسين إلا السيد دي لاند؛ وهو شخصية مميزة خلقا وعلما ورزانة، فشكرت للبروفسور معلوماته القيمة فما كان منه إلا أن بادر إلى الهاتف واتصل فإذا معه على الطرف الآخر السيد دي لاند وبعد عبارات الترحيب قال جيليو: معي السيد البقاعي المرشح لوظيفة ATER. وهو يريد التحدث إليك. ألقيت التحية فبادر إلى الترحيب بي وهنأني على ثقة أستاذي والبروفسور جيليو وقال: إن تعاوننا في إرساء أسس تعليم العربية في كلية اللغات سيك ون له مردود إيجابي لدى الطلاب المنحدرين من أصول عربية وهم كثير في الأقسام الأخرى، وستحتضنهم كلية اللغات، ولشعبة العربية الحظ الوفير منهم، سرني حديثه وقلت: إنني سأحمل معي الكتب المعتمدة في جامعة إكس للمبتدئين وطلب مني الالتحاق قبل أسبوع من بداية العام الدراسي 1990-1991م لتنسيق البرنامج والتعرف إلى المدينة واختيار سكن مناسب. شكرت له اهتمامه ولطفه ثم انتهت المكالمة على وعد باللقاء. كان ينبغي في نهاية العام الدراسي تسليم السكن الجامعي فعرض علي السيد جيليو الإقامة في مكتبته وفعلت مثل ذلك السيدة أوري، وكانت الآنسة غونزالس حاضرة عندما جرى ذلك فأخبرتني أنها تستعد للذهاب إلى دمشق بمنحة من المركز الثقافي الفرنسي لتعليم الفرنسية خلال عطلة الصيف لطلبة سوريين مع توفير الإقامة وراتب شهري مجز بترشيح من السيدة أوري عن طريق المعهد الفرنسين وأنها ستدفع أجرة منزلها في مرسيليا خلال مدة غيابها، ويمكنها إعطائي المفتاح لأقيم هناك حتى عودتها فوجدت أن عرضها هو الأنسب لأراجع رسالتي مراجعة أخيرة بعد أن وفرت لي السيدة أندريو نسخة ورقية. احترم السيد جيليو والسيدة أوري اختياري لأن كلا منهم يغادر في العطلة إلى مدنهم الأصلية لرؤية من تبقى من أسرتهم والسكن في بيوتهم مسؤولية لم أشأ تحملها.
حزمت أمتعتي وتوجهت في سيارتها إلى مرسيليا مرة أخرى غير بعيد عن المكان الذي كنت أسكن فيه، ولما وصلنا أخبرتني الآنسة غونزالس أن في البيت جهاز تلفاز ولاقطا للبث الفضائي مسدد الرسوم لأشهر ثلاثة قادمة. شكرت لها مبادرتها وأعطتني نسخة لمفتاح باب البناء وأخرى للشقة التي كانت أكثر اتساعا من شقتي، ثم انصرفت لقضاء بعض الوقت في بيت والديها قبل السفر. خرجت إلى الشرفة فرأيت الميناء ثم أفرغت ملابسي في خزانة صغيرة ووضعت رسالتي على الطاولة وخرجت إلى السوق الذي كنت معتادا على التردد عليه فاشتريت ما أحتاجه لفطوري وعشائي على أن أشتري مستلزمات الغداء يوما بيوم. تتالت الأيام بين مراجعة الرسالة في النسخة الورقية، وتواصلت مع فيليب، وكنت استودعت عنده ما جمعت من كتب عربية وفرنسية ورجوته أن يرسل لي الكتب فقال إنه سيحضرها بنفسه في عطلة نهاية الأسبوع لأنني علمت أن هناك بريدا بحريا مضمونا إلى سورية بأسعار مقبولة، وفي نهاية الأسبوع وصل فيليب مع الكتب تملأ المقاعد الخلفية وخزان مؤخرة السيارة، ووضع السيارة في المواقف المغطاة للمبنى خوفا من السرقة. أخبرني فيليب أنه مجاز يومي الاثنين والثلاثاء لكي يساعدني في نقل الكتب إلى البريد ووضعها في الأكياس المخصصة لعملية النقل البحري، فشكرت له مبادرته المقدرة وقضينا العطلة في زيارة بعض المناطق الأثرية المطلة على البحر أو تلك الواقعة في قلب المدينة، وارتدنا بعض المقاهي الجميلة على البحر. وفي صباح يوم الاثنين توجهنا إلى البريد المركزي وطلبنا الأكياس المغلفة بالنيلون التي توضع فيها الكتب وتغلق بإحكام، ووضعنا عليها العنوان وإشارة الكتب التي زوّدتنا بها الموظفة التي تشرف على العملية. استغرق الأمر بعض الوقت ولما انتهينا طلبت وضعها في حاوية كبيرة دفعها موظف إلى حيث بدأت بحساب الأجرة المطلوبة بسعر خاص للكتب فدفعت المطلوب وتناولت منها شاكرا الإيصالات التوثيقية. كانت الكتب الفرنسية التي اقتنيتها لأعلام النقد واللسانيات وبعض الأعمال الروائية المنتقاة والموسوعة الفرنسية (أونيفيز ساليس) عزيزة على نفسي ففرحت لإرسالها إلى مكتبتي في حمص. مر اليومان سريعا وغادر فيليب وعدت إلى ما اعتدت عليه من نمطية الحياة بانتظار عودة الآنسة غونزاليس. قبل حلول الموعد الدي حددته مع السيد بنوا ذيلاند Benoît Deslandes، شارفت العطلة على الانتهاء واتصلت الآنسة غونزالس تخبر بيوم وصولها فحزمت أمتعي استعداداً للانتقال إلى غرونوبل Grenoble، وهي مدينة تقع في منطقة الرون- ألب la région Rhône-Alves، جنوب شرقي فرنسا في سفوح جبال ذارك وإيزير le Drac et l›Isère
وعاصمة مقاطعة إيزير وعاصمة إقليم دوفيني تاريخيا، وعاصمة الألب الفرنسية وهي ثاني أكبر مدينة بمنطقة رون ألب بعد مدينة ليون. أما جامعة ستاندال Université Stendha غرونوبل الثالثة Grenoble-III، فتقدم برامج دراسية في اللغات والثقافات الأجنبية والأدبين القديم والحديث وعلوم اللغة والاتصال.
كان علي التوجه إلى غرونوبل قبل أسبوع كما اتفقت مع الدكتور ديلاند للبحث عن سكن والتعرف على مرافق الجامعة.
غادرت مرسيليا إلى إكس وقد تركت رسالة شكر للآنسة غونزالس والمفاتيح في صندوق البريد، ولما وصلت إلى إكس بالباص تواصلت مع السيدة بارون والبروفسور جيليو والسيدة أوري التي ألحت علي للنزول في شقة المكتبة فشكرت لها حرصها وكرمها وقلت: إن البروفسور جيليو كان قد تواصل معي إلى مرسيليا وسألني أن أمر به قبل الذهاب إلى غرونوبل فاطمأنت وقلت لها سنبقى على تواصل. كان لدي بعض التعديلات على نسخة الرسالة النهائية وكان ينبغي إدراجها في متن الرسالة ولم يكن لدي الوقت لفعل ذلك مع السيدة التي تولت طباعتها وإدراج ملاحظات أستاذي وكان علي انتظار الوصول إلى غرونوبل للبحث عمن ينجز ذلك. وصلت إلى المدينة في الموعد الذي حددته وكان هم الحصول على سكن مؤقت يشغلني، ولما وصلت اتصلت بالسيد دي لاند وكان اليوم السبت طلب مني أن أطلب من سائق سيارة الأجرة أن يوصلني إلى سكن الجامعة وقال: إن هناك سكنا بانتظاري تولى حجزه قبل عطلة الأسبوع والمفتاح لدى الحرس. كان ذلك مبادرة تدل على رقي وسعة أفق وحسن تصرف. أبديت امتناني، وانطلقت إلى العنوان الذي أملاه علي ونقلته لسائق السيارة ووجدت الأمر كما قال. كنت أحس بالتعب فألقيت نفسي على السرير ولم أصح إلا في ساعة متأخرة ففاتني إدراك وجبة الإفطار في مطعم السكن القريب، وكان علي انتظار وجبة الغداء. مرت عطلة نهاية الأسبوع والتقيت بالسيد ديلاند الذي طلب مني تحبير بعض النماذج وتوقيعها من أجل انتظام الرواتب منذ الشهر الأول، بعد أن اعتمد مجلس الجامعة الوظيفة ومقتضياتها المالية والإدارية. ثم امتد الحديث إلى عملي في إكس ودوره في الأفضلية التي حازها طلبي ناهيك عن شهادات الأساتذة والأستاذات الذين عملت معهم وحماسة أستاذي إبان مناقشة الموضوع في مجلس الخبراء.
حدثته عن التعديلات التي ينبغي إدراجها في متن الرسالة المحفوظ على قرص، فاصطحبني إلى مكتب كبير فيه عدد من السيدات فرحبوا به، وعرف بي وبما أريده فأشار الجمع إلى سيدة علمت بعد ذلك أنها من أصول مغربية اسمها نجاة وهي في مكتب مجاور ذهبنا إليها فلقيتنا مبتسمة مرحبة فذكرت لها ما أريد فأبدت استعدادها على أن تتواصل معي لدى بروز أي عقبة، فأخبرتها أنني ما زلت في السكن الجامعي واقترحت أن أمر بها بعد يومين لإنجاز الأمر فوافقت وسلمتها القرص والتعديلات على النسخة الورقية، وضربنا موعدا بعد يومين. خرجنا من المكتب وقال السيد ديلاند إنه يقيم في المساء عشاء دعا إليه طالبة أمريكية تدرس العربية لأنها عاشت مدة في المغرب واختارت العربية مادة تكميلية لدراستها الأدب الفرنسي، وحدد موعدا ليمر بي لاصطحابي إلى منزله. شكرت له اهتمامه ولطفه وافترقنا على أن نلتقي مساء. عدت إلى سكني عازما على الراحة وعدم الذهاب إلى المطعم. أدركني النوم فنمت وعندما استيقظت اغتسلت وجهزت ملابسي وطفقت أطالع نسخة من صحيفة تصدرها الجامعة عن أنشطتها وأخبار أساتذتها وموظفيها، ولم أشعر إلا عندما رن جرس المنبه لارتداء ملابسي والاستعداد لمرافقة السيد ديلاند. كنت بانتظار وصوله عندما رأيت سيارته فخرجت وألقيت تحية المساء فقال بعد رد التحية: سنمر إلى سكن الطالبة الأمريكية لاصطحابها فسكنها غير بعيد عن الجامعة فأجبت بالعربية على بركة الله فابتسم ولم يمض إلا وقت قصير حتى كانت الآنسة إلى جانبه بعد أن تخليت لها عن المقعد بجانب السائق كما يقضي العرف. ولنا لقاء.