حامد أحمد الشريف
كنت في حديثٍ مع أحد الأصدقاء، وبدا منزعجًا جدًّا من الاتّهامات الموجّهة إليه بالسرقة الأدبيّة، والتي أصبحت تطال كلّ حرف يكتبه. وكان سبب انزعاجه أنّ الأفكار تكاد تنضب - إن لم تكن قد نضبت بالفعل - فما من موضوع اجتماعيّ أو عاطفيّ إلّا وطُرق وأُشبع حديثًا؛ ما يعني أنّ كلّ ما نسرده ربّما ينظر بعضهم إليه على أنّه لا يخلو من سرقة ما، تتعلّق بفكرته أو متنه أو بدايته أو نهايته. وعندما سألته إن كانت قصص الحبّ والغرام جميعها متشابهة، وكذلك الحوادث الاجتماعيّة، أجابني بحدّة: «نعم»! واستطرد قائلًا: «إنّ كلّ الحكايات التي نرويها لم يعد فيها جديد وهي - من دون شكّ - بُنيت على فكرة سبق لغيرنا أن تناولها، وإن لم نكن نعلم بذلك»!
وكاد يحتد في حواره معي وهو يدعوني إلى ترك التنظير غير المثمر والالتفات إلى الواقع، والتسليم بهذه الفكرة، وموافقته على أنّ أهمّ ما في القصّة الحديثة هو جماليّة اللغة وشاعريّة الكتابة وباقي الاشتراطات المعروفة للقصّة، ولكن، من دون التوقُّف كثيرًا عند الحكاية بكلّ تفصيلاتها، فهي - برأيه - غالبًا مكرَّرة ولا ينبغي النظر إليها عند حديثنا عن أيّ سرديّة. بدا مقتنعًا وهو يجتهد في نقل هذه الفكرة، في وقت بقيتُ على مخالفتي لها ووقوفي ضدّها؛ فأنا لا أتنازل مطلقًا عن أيٍّ من اشتراطات الكتابة الإبداعيّة، مهما كان حجمها، والاختلاف أو الاتفاق حولها، بل إنّني لا أرى الإبداع الحقيقيّ بعيدًا عن كلّ هذه الاشتراطات، وربّما أتشدّد في تطبيقها، لإيماني أنّ الصعوبات والمعوّقات هي المفرزة الحقيقيّة للإبداع؛ فالإبداع وليد حاجة ملحّة، والحاجة لا تُظهرها ظروف الرخاء والطُّرق الممهَّدة. والتاريخ خير شاهد على أنّ أغلب المبدعين لم تنجبهم الطبقة المخمليّة، وحتّى إن شذّت حفنة قليلة منهم عن ذلك، فإنّنا نجدهم يخلقون لأنفسهم تحدّيات كبيرة، ويستمتعون بقدرتهم على تجاوزها؛ فطريق الإبداع ليس ممهًّدًا كما يعتقد بعض من يخلطون بينه وبين الإتقان، ويصفون كلّ صاحب مهارة بأنّه مبدعٌ وموهوب بالفطرة، وهذا بالطبع غير صحيح؛ فالمبدعون هم قلّة قليلة، لا نجدهم في كلّ وقت، وحتّى إن وُجدوا قد لا نشعر بهم بسبب عدم وفاقهم مع مجتمعاتهم، وجنون ما ينادون به، وشطوحهم في مهاراتهم، وتجاوزهم الأفكار السائدة.
وخلاصة القول، إنّ صديقي ظلّ - يقينًا - على نظرة الاستصغار التي يرمقني بها، ولم يتزحزح عن أفكاره، وبالطبع، يمكنكم تخيُّل نوع الكتابات التي سيأتي بها وهو ينطلق من هذه الأفكار التي تقتل إبداعاته وتجعله يكتب ألف قصّة سطحيّة لا قيمة لها، لا يظهر من جمالياتها غير لغتها؛ وحتّى هذه - في ظلّ تخلّيه عن شرط الأصالة والتفرُّد - سنجدها تخلو من تراكيب لغويّة إبداعيّة، وتكون تكرارًا مملًّا للعبارات التي نسمعها أو نقرأها.
ولعلّي أختم هذه الجزئيّة بالقول إنّ المبدع الحقيقيّ يعمل جاهدًا على تجاوز الصعوبات، ويختلق طرقًا جديدة لاجتيازها، ولا يؤمن أبدًا بوجود عراقيل توقف تقدُّمه مهما كانت قوّتها وقدرتها على إبطاء مسيرته، بينما يتوقّف غير المبدع عندها، ويشغل نفسه بتبرير عدم قدرته على تجاوزها، وينحصر «إبداعه» في محاولة إقناع الآخرين بفشله.
إنّ ما ذكره صديقي عن نضوب الأفكار ليس صحيحًا، بالتأكيد؛ فالحياة التي أفهمها لا تتوقّف في أيّ منشطٍ من مناشطها، ولن نصل إلى الحقائق المطلقة حتّى يرث الله الأرض ومَن عليها. وكلّ ذلك يسير وفق السنن الربّانيّة التي أكّدت هذا المعنى، وهي تبتعد عن النتائج المطلقة، وتجعل كلَّ ما فيها مفتوحًا على حقائقَ جديدةٍ تُكتشف مع توالي الأيّام. حتّى أنّهم عندما وضعوا رتبًا للاكتشافات العلميّة تبتدئ بالتجارب وتنتهي بالحقائق العلميّة، وبينهما النظريّات، اعتقدوا أنّ الحقائق هي مسلّمات علميّة يتّفق عليها كلّ العلماء، ولا عودة عنها مطلقًا. لنكتشف في الحقبة الأخيرة، وبعد التطوّرات الهائلة في وسائل وأدوات التجريب، أنّ الحقائقَ العلميّة بدأت تسقط هي الأخرى، ولم تستطعِ الصمود حتّى النهاية؛ فكَثُرَ الحديث عن النسبيّة لـ»أينشتاين»، رغم أنّها لم تكن موضع نقاش ولا جدال، وظهر من يشكّك فيها ويذكر أنّ هناك ظواهر كونيّة تسير وفق مبادئ خارجة عن قواعدها. وذلك يأتي مصداقًا لقول الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (سورة الإسراء الآية 85). وكما يظهر من هذه الآية الكريمة التي بات واضحًا أنّها لم تكن تتحدّى فئة من البشر نزلت عليهم، إذ إنّهم كانوا وقتها يجهلون جلَّ الحقائق العلميّة التي أتت في القرآن، ولم يكونوا أهلَ علم، واقتصر تحدّيهم على الجانب اللغويّ، إنّما المقصود منها بيان أن لا حقائق مطلقة في هذا الكون إلّا ما يريده الله، وقد لا نعرفه بوسائل كشفنا المعتادة.
وبمعنًى أدقّ، نحن لا نعلم أيَّ الحقائق العلميّة يصمد حتّى النهاية، فهذا أمرٌ في علم الغيب الذي لا يعلمه غيره سبحانه وتعالى. وهو ما يقودنا إلى الإيمان الذي لا يخالجه شكّ، أن لا شيءَ مطلقٌ في هذه الحياة، فكل ما نظنُّه قد وصل إلى منتهاه، نكتشف لاحقًا أنّه ما زال في بداية الطريق، وأنّنا أبعد ما نكون عن الإلمام بكلّ تفاصيله، أو الوصول إلى النهاية المرجوّة. والأمر - يقينًا - لا يتوقّف على العلم الطبيعيّ، بل يمتدّ إلى كلّ المناشط الحياتيّة التي من ضمنها الأفكار، فهذه يستحيل أن تنضب؛ وإن فهمنا الزوايا الإبداعيّة، لن نعود إلى الحديث المزعج عن نضوب الأفكار.
والزوايا الإبداعيّة إنّما هي تلك النظرة التي تجعلنا نحيط بالمشهد الواحد من عدّة مواقع مختلفة، ما يخلق قيمةً جديدة له لا تشبه قيمته السابقة. وإذا ما أردنا حصر الاحتمالات العدديّة لهذه الزوايا الممكنة، قد نحتاج إلى الإلمام بفرعٍ مهمّ جدًّا من فروع الرياضيّات، يتعلّق بالجبر الخطّيّ، ويطلَق عليه اسم «نظام المصفوفات»، وهذا - بالمناسبة - أتى به عالِم الرياضيّات والفلك والجغرافيا المسلم المعروف «أبو عَبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى الخَوارِزمي»، أو لنقل، إنّه أوّل من أظهره بالشكل الذي يشبه ما هو عليه الآن، إذ إنّ الصينيّين كان لهم معادلاتٌ خطّيّة ودوالٌّ تشبه نظام المصفوفات، وُجدت في مخطوطاتٍ قديمة لهم دوِّنت قبل الميلاد بثلاثمائة عام، وإن كان هذا العلم لا يزال يُنسب إلى هذا العالِم المسلم، ويسمّى باسمه حتّى يومنا الراهن، فيقال عن المصفوفات «خوارزميّات»، نسبة إليه.
وقد تشعّب هذا العلم كثيرًا مع تعهّده، بدايةً، من اليابانيّين (في أواسط القرن السابع عشر)، حتّى انتهى به الحال إلى الصورة التي هو عليها الآن، بعد الاعتماد عليه بشكلٍ كلّيّ أو جزئيّ، في أكثر من مجال من مجالات العلم الحديث، مثل علم الميكانيكا، والفيزياء، والبصريّات الهندسيّة والكهرومغناطيسيّة، وميكانيكيا الكمّ، والهندسة التحليليّة، ورسومات الكمبيوتر، ونظريّات الاحتمال والإحصاء، ومعالجة الرسومات الثلاثيّة الأبعاد، وفي علم الاقتصاد... كما تمّ الاعتماد عليه في صياغة عددٍ من النظريّات العلميّة، مثل نظريّة الرسم البيانيّ، ونظريّة التحليل والهندسة، ونظريّة التركيبات الخطّيّة، ونظريّة البصريّات الهندسيّة، ونظريّة الإلكترونيّات. ووُظِّف في عددٍ لا نهائيّ من الصناعات، كالصواريخ بكافّة أشكالها، وكذلك الحاسبات الآليّة التي تعتمد عليه اعتمادًا كلّيًّا في سرعاتها، وحجم ذاكرتها، والعمليّات التي تقوم بها.
وما يعنينا من ذلك كلّه علاقته بالإبداع، واحتياجنا له لتعزيز فهمنا الحقيقيّ للحياة، إذا ما علمنا أنّ هذه المعادلات المصفوفيّة وحدها القادرة على حصر الاحتمالات الممكنة التي نحتاج لمعرفتها عند إقدامنا على عملٍ إبداعي معيّن، وخشيتنا من تكرار ما قام به مَن سبقنا في هذا المجال؛ ما يعني أنّنا نتحدّث عن أرقام خياليّة لا نهائيّة لهذه الاحتمالات الممكنة، ويعظم هذا الأمر إذا ما ربطناه بالأشكال الكرويّة غير المسطّحة التي خُلق الكون على أساسها، وكان من شواهدها التعليميّة الأجرام السماويّة، ولا يمكن تجاهلها عند حديثنا عن زوايا الرؤية التي تعتمد اعتمادًا كلّيًّا على هذا المبدأ الكونيّ.
فلو أنّنا ننظر إلى الأفكار على أنّها كُرات - وهي بالفعل كذلك كما سيأتي لاحقًا - سنعي وندرك الأعداد اللانهائيّة من الاحتمالات للأفكار الجزئيّة المستقاة من الفكرة الأساسيّة. وتعامُلُنا مع الأفكار على أنّها كرات، لم يأتِ من فراغ، فالفكرة - عامّةً - لا يمكن أن تكون مسطّحة، إذ لا حدود نهائيّة لها، وإلّا لما أصبحت فكرة، وتحوّلت إلى حقيقة أو خبر أو معلومة، وهي الأشكال المنتهية التي يمكننا رسم حدودها ومعرفة أبعادها؛ بينما اعتمدت الفكرة في مسمّاها على غياب حدودها، أو التلاشي الذي يقودنا إلى ما يشبه النهاية، أو ما يمكن أن نطلق عليه اسم النهاية الاحتماليّة، لكونها في حالة تغيُّر مستمرّ لا يمكن الجزم به.
ذلك ما يقودنا إلى القول، إنّ الأفكار تأخذ بالفعل شكل الكرة وتتّصف بصفاتها، وإنَّ حديثَنا عنها ينطلق في الأساس من فهمنا للجسم الكرويّ وما يتعلّق به من نظريّات علميّة تؤطِّر الحسابات الرياضيّة التي سنجريها عليه. وهو ما يؤكّد أنّ مسألة النضوب غير واردة إطلاقًا، طالما كانت الفكرة تأخذ هذا الشكل الهندسيّ المجسّم؛ ما يعني أنّ باستطاعتنا تدوير نظرتنا لها من زواياها المتعدّدة، عكس ما يحدث بالنسبة للأشكال المسطّحة التي تمتاز بحدودها النهائيّة التي تقلِّل من الاحتمالات، وقد تُدخلنا في دائرة الشكّ خشية نضوبها في نهاية الأمر، بسبب وجود حدود نهائيّة تُنهي مجال رؤيتنا مهما اتّسعت مساحة هذا السطح.
وهو عكس ما يحدث عند التجسيد والتكوير اللذين يجعلاننا لا نرى غير جزئيّة بسيطة من السطح الذي أمامنا؛ فالتحدُّب الشكليّ يشتّت الضوء ويقلّل بشكل ٍ كبير من عدد الأشعّة الضوئيّة التي تنعكس وتصل إلى أبصارنا، وبالتالي، يصعُب حصر المشاهد الملتقطة، مهما اختلفت الزوايا، رغم وجود تقاطعات حتميّة ترتبط بتعدّد نقاط التبئير الأساسيّة؛ وهذه الالتقاطات - بالطبع - تأخذ هي الأخرى أشكالًا كرويّة، ما يجعلنا نقف أمام عددٍ هائل من مختلف الكرات التي لا يمكن حصرها - كما أسلفت - إلّا باستخدام الدَّوالّ المصفوفويّة؛ وبالتالي يصبح القول بنضوب الأفكار ضرب من الخيال، لا يقول به عاقل، ويعَدّ من سابع المستحيلات، بدليل أنّنا ما زلنا نسمع عن أفكار جديدة انطلقت منها مشاريع عظيمة، رغم توالي البشر على الأرض منذ خلق آدم. والأمر - بالطبع - لا يقتصر على الكتابة، بل يمتدّ إلى كلّ المناشط الحياتيّة التي تنطلق من أفكار خلّاقة لم يسبق القول بها.
هذه الأرقام المهولة التي نتحدّث عنها، يمكن اختبار مصداقيّتها من خلال استعراض بعض النماذج الإبداعيّة من أصحاب المهارات الفائقة، كالفنّ التشكيليّ الذي ينشغل أتباع المدرسة الواقعيّة منه، منذ قديم الأزل، برسم لوحاتٍ ترتبط بالواقع، وبالتالي تُشابهه في فكرتها الأساسيّة؛ فهم يرسمون واقعًا يراه الجميع، ويتمايزون في ما بينهم بدقّة نقلهم لهذا الواقع، باستخدام الألوان والفرشاة، ومطابقة اللوحات المرسومة للمشاهد التي يستهدفونها؛ فلو لم تكن نظريّة الزوايا الإبداعيّة التي نتحدّث عنها، لأصبحَ لدينا عددٌ محدود من اللوحات، ولأُغلقت هذه المدرسة مبكِّرًا، وأصبح مجرّد رسم لوحة واقعيّة يعَدّ ابتذالًا للفكرة، وتكرارًا ممجوجًا لا نتقبّله. ولكنّ الأمر لا يحدث على هذا النحو المغرِق في التشاؤم، أو لنقل السطحيّة. فالواقعيّة مدرسة تعتمد على فكرة يندرج تحتها عدد كبير من الأفكار، وكلّ لوحة تحوي فكرةً مختلفة عن سابقتها؛ فمن يرسم منظرًا طبيعيًّا للجبال والنهر يختلف عمّن يرسم لوحة للصحاري القاحلة، ويختلف مَن يرسم مجموعةً مِن الزهور موضوعة في إبريق على الطاولة عمّن يرسم زهورًا منثورةً على الطاولة أو من يرسمها قبل قطفها، ويختلف من يرسم إنسانًا أو حيوانًا بكامل هيئته عمّن يستهدف الوجه فقط، ومن يرسمه قابعًا في مكانه عمّن يرسمه بمعيّة أنشطته الحياتيّة...
وفي هذا ما يشير إلى تطبيق نظريّة الزوايا، فكلّ لوحةٍ من هذه اللوحات جَزّأتْ لنا الفكرة، وزادت من مساحتها، وقلّلت من تطابقها، وأوصلتنا إلى عددٍ لا نهائيّ من الأفكار الأصيلة، رغم أنّنا لم نغادر المدرسة الواقعيّة وننتقل إلى باقي المدارس التي لها مثل هذه التفريعات وأكثر. وإذا ما أخذنا المناظر الطبيعيّة - على سبيل المثال - نجد أنّ هناك من يرسم البحر، وهناك من يرسم النهر، وهناك من يضع ضمن تكوينه الطبيعيّ جبالًا، وهناك من يبني كوخًا، وهناك من يُظهر أرضًا زراعيّة، وهناك من يُظهر أرضًا بورًا، وهناك من يختار الشروق وقتًا لالتقاطته، وهناك من يختار الغروب... وكلّ هذه التفريعات يمكن خلطها مع بعضها بنظام المصفوفات المتقاطعة، لنخرجَ بمتوالية ذاتِ عددٍ ضخم من الاحتمالات التي تجعل من التشابه أمرًا غاية في الصعوبة.
وإذا ما علمنا أنّ أيَّ فنّان باستطاعته اللعب على المشاهد وتغيير تفاصيلها الصغيرة، وتوظيف نظام الزوايا الإبداعيّة بخلق فكرة أصيلة تستنطق اللوحة وتمنحها التفرُّد، من خلال توظيف اللون والظلّ والنور وباقي تقنيات الرسم المتعدّدة، فإنّنا نكاد نجزم أنّ التشابه والسرقة إنّما هما حيلة العاجز الذي يعاني من نضوب أفكاره بسبب فقده لعناصر الإبداع، أو لكسله، أو لرغبته في الصعود السريع بدون المرور بمخاضات الإبداع. بينما المبدع الحقيقيّ يستطيع فعل الكثير لخلق إبداع لم يأتِ به غيره؛ كلوحة الطفل الباكي التي جمعت بين جمال الطفل وملامحه الهادئة ودموعه المتقاطرة، فخلقت لنا مجموعةً من التساؤلات عن سبب بكائه، في ظلّ أنّ الباكي طفل. فهل البكاء مرتبط بالفقر والصعلكة أم أنّ الأغنياء أيضًا يبكون ويكونون صادقين في بكائهم؟
كلّ هذا يشكّل زوايا إبداعيّة للعمل، تزيد من إيماننا بأنّنا نستطيع رسم ملايين الصور لأطفال، بطريقة إبداعيّة تتمتّع بالأصالة والتفرُّد، من خلال زوايا مبتكرة تعبِّر عن إبداعاتنا وقدراتنا التي نتفوّق فيها على غيرنا. فسلوك الإنسان الذي تفضحه ملامحه - على سبيل المثال - بحر واسع يمكننا اللعب كثيرًا عليه إن امتلكنا المهارة والفكر والتفرُّد والأصالة والإرادة الحديديّة التي لا غنى للمبدع عنها. وبالتالي لن نخشى التكرار أو الوقوف مكتوفي الأيدي أمام الأفكار، ولن نكون بحاجة للتذرُّع بعدم قدرتنا على الإتيان بجديد عندما نُسأل عن سبب توقُّفنا.
ولو تركنا مجال الفنون التشكيليّة والرسم تحديدًا، وذهبنا باتّجاه العِلم الطبيعيّ الذي كان من نتاجه المخترعات الحديثة التي أوصلتنا إلى عالم من الخيال، نجد أنّ خير ما يُستشهد به على الزوايا الإبداعيّة هو ما يسمّى ببراءات الاختراع التي أصبح من الصعوبة حصرها والتحدُّث عن أبطالها، وهو ما أدّى إلى إنشاء هيئة عالميّة مستقلّة وظيفتها استقبالها وتسجيلها بشكلٍ رسميّ، وحماية أصحابها، والاعتماد على الدوائر القضائيّة في حال تسجيل أيّ تجاوزات؛ وبالتالي لم يعد يهمّ مَن هم المالكون لهذه الاختراعات بقدر الاهتمام بها بحدّ ذاتها، بعد أن فاق عددها التصوّر ولم يعد بالإمكان حصرها والتحدُّث عنها. ويكفي للدلالة على ذلك، أنّ كلّ «موديل» جديد من السيارات يحوي عددًا كبيرًا من براءات الاختراع تسجَّل باسمه، بل إنّ كلّ «موديل» جديد من أيّ صناعة، يتضمّن أفكارًا جديدة تشكِّل براءات اختراع لم تكن موجودة مسبقًا. والعالم في صراعٍ كبير جدًّا على هذا الجانب، حتّى لم يعد بالإمكان متابعة بعض العلوم من خلال الكتب، كعلم الحاسب الآليّ الذي قد لا يصمد أحدُ إصداراته أكثر من عامٍ واحد، بعدها يصبح من الماضي، وتكون قد ظهرت نظريّات تُبطل كلّ ما سبقها.
وما يمكننا قوله، إنَّ عالَم الاختراعات ميدانٌ خصب لإيصال فكرة الزوايا الإبداعيّة. فهؤلاء المخترعون لم يأتوا بأفكار كبيرة جديدة، بمعنى أنّ براءات الاختراع المسجَّلة في التصاميم الجديدة لم تأتِ بوسيلة نقل مختلفة، وهي الفكرة الأمّ، وإنّما ذهبت باتّجاه الأفكار الصغيرة، وسعت إلى تطويرها والإتيان بالجديد حولها، فطوّرت لنا شكل السيارة ورفاهيتها وتسليتها، وطوَّرت ناقل الحركة ودورة الماء وعمليّة الاحتراق مقلّلةً من نواتجها وقوّة دفعها. وهكذا نجد أنّنا أمام أفكارٍ للتطوير لا تنتهي، تطالعنا كلّ عام، وأصبحت معها السيارات التي كنّا نتغنّى بها ونرى اقتناءَها حلمًا يصعب تحقيقه، تُعتبَر بدائيّةً جدًّا، رغم مرور أعوام قليلة على إنزالها إلى المعارض، وبالتالي لن نفكّر بشرائها إلّا إذا عجزنا عن امتلاك الجديد.
أمّا في مجال الرياضة، فرغم أنّ القواعد الأساسيّة التي بُنيت عليها كلّ الألعاب الفرديّة والجماعيّة هي نفسها، إلّا أنّ الألعاب اختلفت كثيرًا مع مرور الزمن، في منتوجاتها، وقيمتها، وتمتُّعنا بها ممارَسةً ومشاهَدة. والسبب الزوايا الإبداعيّة التي جعلتنا نحاول بكلّ ما أوتينا من قوّة تطويرها، ولا نتوقّف عن ذلك أبدًا. فعلى سبيل المثال، نجد أنّ كرة القدم وقت ظهورها الأوّليّ، اختلفت كثيرًا عن كرة القدم التي نتابعها الآن، والاختلاف ليس جوهريًّا، فهي لا تزال تعتمد على الركض، واختيار أماكن استقبال الكرة، والنهوض بعمليّة الاستلام والتسليم بشكلٍ صحيح، وكذلك على القدرة على ركل الكرة بالقوّة التي تحدِّد المسافة التي تقطعها، وعلى الهجوم لتسجيل الأهداف والدفاع لمنع دخولها... وباقي الأساسيّات التي نعلمها. بينما مَن يشاهد المباريات القديمة قد تنتابه موجة من الضحك وهو يرى الفرق الذي وصلنا إليه الآن في المهارات والسرعة والإمكانيّات الجسديّة... وكلّ ما نراه من تغيّرات تعتمد على نظرتنا المختلفة للمهارة، وليس على المهارة نفسها فقط. وهو ما يعيدنا مجدّدًا إلى الحديث عن نظريّة الزوايا الإبداعيّة التي ضمنت لنا التطوُّر المستمرّ. وأكاد أجزم أنّ كرتنا التي نمارسها اليوم سيأتي من يضحك عليها مستقبلًا، بالنظر إلى التطوُّر الذي ستشهده. فقاعدة الزوايا تجعلنا أمام أرقام لا نهاية لها، فكلّ جزئيّة صغيرة في هذه الممارسة الرياضيّة، قابلة للتطوير والتشكُّل بما يخدم منافسة اللعبة التي هي أيضًا لم تعد كالسابق، واضطرّ المنضمّون إلى تشديدها أكثر تبعًا للإتقان المتوالي.
وفي مجال الكتابة الإبداعيّة بكلّ أجناسها وألوانها، نجد أنّنا أمام بحرٍ متلاطم من الأفكار، جعلنا نصنِّف الكتابات حسب العصور التي ظهرت فيها، ونجتهد للربط بينها. ففي مجال الشعر العربيّ قلنا بشعر الجاهليّة، والشعر الأمويّ، والشعر العباسيّ، وشعر الأندلس، والشعر الحديث. والشعر نفسه تعدّدت أنواعه، فظهر لنا بعد الشعر العموديّ شعر التفعيلة، والشعر الحر، وشعر النثر؛ وحسب اللغة، ظهر لنا الشعر الفصيح، والشعر العامّيّ؛ وكلّ ذلك ونحن لا نزال نتحدّث عن مجالات الشعر نفسها التي لم تتغيّر. فالشاعر لا يزال يمدح ويذمّ ويفتخر ويهجو ويحبّ ويكره. ورغم ذلك فإنّنا نجد مليارات الأشعار - إن لم نبالغ - التي تختلف في ما بينها بسبب نظريّة مصفوفة الزوايا الإبداعيّة التي جعلت كلّ شاعرٍ مبدع لديه ألف طريقة وطريقة لقول ما لم يقله غيره، وأصبح الزمن يجود علينا، في كلّ عقد من عقوده، بشعراء أفذاذ يجدّدون في شعرنا ويوقفوننا على أشياء جميلة، رغم استمتاعنا المستمرّ بالقديم، وإقرارنا بفضله وقيمته. فلولا هذه النظريّة، لما أمكن لشاعر أن يقول شيئًا بعد شعراء المعلّقات، أو بعد ظهور «أبو الطيّب المتنبّي» أو بعد «الفرزدق» و»جرير»، أو بعد «ولّادة بنت المستكفي» و»ابن زيدون»... وكل هذه الأسماء التي - على قيمتها ومكانتها الإبداعيّة - لم تستطع احتكار الشعر ونسبته لأنفسها. وكان عليها التسليم بأنّ هناك ما يمكن قوله مستقبلًا، ولم تستطع الإتيان به، والسبب أنّ الأفكار وطريقة تناولها، والصور الشعريّة، والقوافي المستخدَمة، وبحور الشعر، كلّ هذه يمكن خلطها في مصفوفات تُظهر لنا عددًا هائلًا من الاحتمالات الممكنة لإبداعات غير متشابهة، تجعل التوقُّف ضربًا من الخيال.ذلك ما يحدث أيضًا مع كلّ الكتابات في مختلف الأجناس الأدبيّة، إذ إنّ باب الإبداع مفتوحٌ على مصراعيه باشتراطات التفرُّد والأصالة في كلّ عناصرها إذا ما نظرنا إليها من خلال الزوايا التي تحمل رؤيتَنا وأفكارَنا وأسلوبَنا والتقاطاتِنا المختلفة التي يستحيل معها التشابه إلّا إذا تقصّدنا ذلك.
وإنّما نضوب المبدعين منوطٌ بعوامل أخرى لا علاقة لها بغياب الأفكار المبتكرة التي يستحيل على الإطلاق - بحسب نظريّة المصفوفات الإبداعيّة - نضوبُها. هذه العوامل تتعلّق بأصحاب المهارات أنفسهم، وفقدهم شيئًا من عناصر الإبداع التي تحدَّثنا عنها، كأن يكونوا مقولبين، نشأوا على فكرة التقليد الأعمى المستمرّ، أو لارتباطهم بالتوجُّهات المجتمعيّة، وعدم قدرتهم على التخلُّص من تأثيراتها السلبيّة، أو فقدهم القيادة الحقيقيّة، أو إيمانهم ببعض الأفكار الخاطئة التي تُفقدهم عنصر التحدّي، أو ضعف أخيلتهم. ولا يخلو الأمر - عادةً - من سبب أو عدّة أسباب تقلِّل من ظهور المبدعين في زمن من الأزمنة، وتزيدهم في أزمنةٍ أخرى. ولعلّ أهمَّ هذه الأسباب هو المنافسة وصعوبتها التي عادةً ما تصقل إبداعاتنا، تماهيًا مع فكرة أنّ الإنسان ميّال بالفطرة للبحث عن الإطراء وتصدُّر الصفوف، مهما كانت إمكاناته ومقدراته. وكلّ ذلك يوقفنا - بالطبع - على فهم سبب ظهور عصور امتازت بمبدعيها، وعصور ظلاميّة لم يحفل التاريخ بها، ولم تخلِّد ذكره، وهي أزمنة متعاقبة لا يتوقّف ظهورها؛ ففي مجال الكتابة المرتبطة بالتاريخ الإسلاميّ، ومع الكتابات الأدبيّة تحديدًا، نجد أنّنا مررنا بعصور ازدهار متعدّدة، لعلّ أوّلها ما كان في منتصف القرن الثاني الهجريّ، مع ظهور وازدهار حركة الترجمة عن اللغات الأخرى التي شكّلت انطلاقتنا في عالم التأليف، وشهدت ظهور مصنّفات ارتبطت بكتّاب مسلمين عُرفوا بها؛ كـ»ابن المقفّع» الذي عرفناه بكتاب «الأدب الصغير والأدب الكبير» و»كليلة ودمنة»، رغم تعدُّد مؤلّفاته، مستغلًّا معرفته باللغتين: الفارسيّة والهنديّة، وقيامه بالترجمة عنهما. وشكّل بذلك بداية انطلاقتنا كمسلمين في عالم النثر الفنّيّ غير المنظوم الذي تمّ التخلُّص فيه من قيود الشعر، في وقتٍ لم يخلُ من اللذّة والجمال الذي يُطرب السامع. وشكَّلَ ذلك - بالفعل - أوّل ظهور حقيقيّ للنثر الكتابيّ، قبل تجنيسه، وكان على يد «ابن المقفّع»، وجاوره في ذلك «عبد الحميد بن يحيى مولى العلاء بن وهب القرشي»، وإن كانت كتاباته في مجملها عبارة عن رسائل لم تُجمَع في كتاب كما فعل «ابن المقفّع».
إنّ هذه الحقب المتوالية وتداولها بين ثقافات متعدِّدة، وصولًا إلى العصر الحديث، أكّدت على أنّنا قد نفاجأ بظهور فنونٍ إبداعيّة جديدة، وأفكارٍ أصيلة، وحضاراتٍ ونماذجَ بشريّة بائدة، كنّا نظنّها لن تتكرّر. وهكذا هي الحياة - كما أسلفنا - لا نهاية لها ولتغيُّراتها السلبيّة والإيجابيّة، بالسنن الربّانيّة التي خلق الله الكون عليها.
بقي القول، إنّ الصناعة الإبداعيّة ومحاولة الانتماء إلى هذا العالم المتقن والمتفرّد في نتاجه الإنسانيّ، يقتضيان اعتناق فكرة الزوايا الإبداعيّة، والإيمان بالمعادلات المصفوفيّة التي بتنا على يقين من أنّها وحدها القادرة على الإحاطة بها وحصرها. وبذلك لا عذر لنا إن فقدنا الأصالة والتفرُّد في محاولاتنا الإبداعيّة. وينبغي أن نضع أمامنا هذه الحقيقة، فنجتهد للوصول إلى الزاوية التي لم يطرقها غيرنا، وننطلق منها لصنع اسمٍ لنا يخلِّده الزمن، ويخرجنا من أرشيف الحياة إلى الهامش الذي يحتضن جلّ من يتوالون الظهور على مسرح الحياة، ويغادرونه بدون أن يتركوا أثرًا يدفعنا للإحساس بهم لجهلهم بحقيقة المصفوفات الإبداعيّة.