أحمد المغلوث
عندما أعلن الأستاذ بدر كريم اسمي لتقديم اللوحة لجلالة الملك الشهيد فيصل -رحمه الله-، كان سرادق الحفل مكتظًا بمئات الحضور من أصحاب السمو الملكي والأمراء والعلماء والوزراء وأعيان الأحساء. سرت حاملاً اللوحة على السجادة الحمراء، وقبل وصولي قام الفيصل ومعه الجميع. شعرت برهبة وأنا أشاهده مباشرة بوجهه الباسم وهو يشكرني على مبادرتي، وأصوات وأضواء الكاميرات توثق المشهد. كانت لحظات لا تُنسى. وعند انتهاء الحفل، سارع العديد من الحضور لتهنئتي وشكري، بعضهم أعرفه والبعض الآخر أراه للمرة الأولى.
بعد سنوات، كلفت وزارة الزراعة الشركة الألمانية التي نفذت المشروع بتنفيذ مشروع تطوير “حرض”، والذي تقوم به شركة “واكوتي”. استعدادًا لزيارة كبار المسؤولين في الدولة، بحثت إدارة المشروع، وكانت مكاتبها في مدينة المبرز، عمن يقوم بتنفيذ 6 لوحات بمقاس 3 أمتار طولاً ومتر ونصف عرضًا. فتوجهت إلى أكثر من خطاط في الهفوف، لكنني اكتشفت عدم إجادتهم للخطوط الإنجليزية. ومن حسن الحظ، خطرت على بالي فكرة زميل دراسة في المرحلة المتوسطة كان يعمل في سكرتارية الشركة، فأخبرهم أنني من هواة الرسم والخط وربما أستطيع القيام بذلك.
فوجئت بعد عصر أحد الأيام بحضوره لمنزلي وبرفقته أحد المهندسين في الشركة العملاقة. دعوتهما للدخول لمجلس بيتنا لمعرفة المطلوب ومناقشة كل ما يتعلق بعملية التنفيذ. كنت قد أعددت تعليق لوحاتي على جدرانه. فدهش المهندس الألماني من لوحاتي، والتفت إلى مرافقه، زميل دراستي في المرحلة المتوسطة، “بدر الصويغ” رحمه الله، وطلب منه أن يعرض على تصاميم اللوحات المطلوبة. جلسنا جميعًا على “دواشق” المجلس، وراحا يعرضان التصاميم المطلوبة، وسألاني إذا كنت مستعدًا للقيام بالتنفيذ، خاصة وأن الوقت المطلوب لإنجازها هو 12 يومًا، وموعد حفل استقبال الشخصية المهمة بعد أسبوعين فقط.
أبديت استعدادي لتنفيذ ذلك وطلبت منهما مبلغًا بسيطًا كعربون لشراء بعض المستلزمات، حتى أتمكن من تقديم البروفة المطلوبة خلال 3 أيام، على أن تقوم الشركة بطلاء اللوحات بلون ناري أبيض وتوفر لي اللون الأزرق المعتمد لدى الشركة. فقال لي المسؤول في الشركة إن اللوحات جاهزة وسوف يحضرونها لي غدًا صباحًا، ومعها اللون الأزرق وشعار الشركة. وبعد أن احتسيا الشاي والقهوة، تسلمت منهما مبلغ “200” ريال، كان في التسعينات الهجرية يُعد مبلغًا كبيرًا.
ومن حسن الحظ، كنت في إجازة من عملي. وفي صباح اليوم التالي، كنت أنتظر على مضض وصول اللوحات، وفي تمام التاسعة صباحًا، وصلت اللوحات العملاقة، كان يحمل كل واحدة اثنان من عمال الشركة. طلبت منهما إسنادها على جدار رواق البيت، وكان بفضل الله رواقًا كبيرًا في زاويته الجنوبية “وجاق”. حال خروج حاملي اللوحات، سارعت بالخروج من البيت، وكان يقع على الشارع الرئيس بالمبرز. أشرت لأول سيارة أجرة وتوجهت إلى الهفوف، وبالتحديد إلى مكتبة التعاون الثقافي لصاحبها المرحوم الشيخ عبدالله الملا رحمه الله، حيث كانت المكتبة التي يمكنك أن تجد فيها بعض المستلزمات التي تحتاجها في أعمال الرسم. اشتريت أوراقًا كبيرة وشدة كربون وأقلام رصاص ومشرط، ولم أنسَ أمواس الحلاقة التي اشتريتها من دكان “الحبص” الشهير بالقيصرية، والذي يقع مقابل المكتبة شرقًا. حملت ما اشتريته على رأسي وعبرت الشارع، وكان في تلك الأيام السير فيه ذهابًا وإيابًا بل “خليط بلاليط”. أوقفت سيارة أجرة عائدة إلى بيتي وأنا أكاد أطير من الفرح. فمن حسن حظي أنني كنت ساعتها داخل السيارة، وإلا كنت طائرًا أطير فوق ربوع الأحساء. نعم كنت فرحًا لأنني سأقوم بتنفيذ عمل في أيام إجازتي.
حال وصولي إلى البيت، وضعت ما اشتريته داخل مرسمي وغرفتي، والتي كانت عبارة عن غرفة مربعة. طلبت من والدي رحمه الله أن لا يهدمها ويبقيها لتكون غرفتي ومرسمي. أما بقايا البيوت الأربعة التي اشتراها من “الحياك” في بداية التسعينات الهجرية، وكانت بيوتهم جنوب سور المبرز، فقد انتهت ببرج في الزاوية الغربية والجنوبية من السور. فعاد ببنائها بالأسمنت المسلح. كانت الغرفة واسعة وكبيرة، لها 6 نوافذ علوية وجدرانها مرتفعة عن بقية غرف البيت، وسقفها يتحد مع سقف الرواق.
بعد صلاة الظهر، بدأت بمساعدة شقيقتي أم محمد رحمها الله في حمل إحدى اللوحات ووضعناها على أرض الرواق، وألصقنا الأوراق الكبيرة عليها بلاصق، وبنفس مقاس اللوحة الأستيل ثلاثة أمتار في متر ونصف. بدأت على بركة الله بكتابة العبارات الموجودة في أوراق الشركة، ثم قمت بتفريغ الكتابة ونقلها على لوحتين من اللوحات مع رسم شعار الشركة. ومن كرم الله، انتهيت من تنفيذ البروفه خلال يومين.
وعندما جاء اليوم الثالث، حضر المسؤول الألماني يرافقه الأستاذ بدر، وأدخلتهما داخل البيت وشاهدا البروفه. وإذا بالألماني يرفع يده بإشارة الإعجاب والتقدير ثم مد يده لي مصافحًا ، وهو يردد: “فانتستيك”، وتم اعتماد البروفه والتوقيع على التنفيذ.