د.صالح بن عبدالله بن حميد
الحمدلله جعل الدنيا دار اعتبار، ومحفوفة بالأخطار والأكدار، والصالحون الموفقون يبنون لهم داراً غير هذه الدار، أحمده سبحانه، وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يقين وإقرار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى المختار، وعلى آله وصحابته البررة الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القرار، أما بعد:
فإن القلوب تقسو، والنفوس تلهو، والعقول تغفل، ولا بد من واعظ، وخير واعظ يرد النفس عن هواها، تَذَكَّرُ الموت ومفارقةِ هذه الحياة إلى دار الجزاء. ولذلك يروى في الحديث الذي رواه الطبراني - وإن كان ضعيفا -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالموت واعظا». وأي واعظ أبلغ من هذا الواعظ؟ فبينما ترى الإنسان وجها مضيئا، وجسدا حيا، وعقلا مدبرا وروحاً وثابة، إذا بالموت ينزل به فيذبل الوجه، ويموت الجسد، ويزول العقل، وتذهب الروح، ويتحول كل ذلك إلى جثة هامدة توارى في التراب، فينبغي للعاقل الحازم الذي يرجو الله واليوم الآخر أن يتذكر تلك اللحظات ولا يغتر بما هو فيه من العافية والسلامة، فالموت يأتي بغتة.
والموت لا يعرف صغيرًا أو كبيرًا، ولا مريضًا أو صحيحًا، ولا نشيطًا أو ضعيفًا، الموت لا يستأذن، بل يأتي فجأة، فاستعد - يا عبدالله - واحفظ إيمانك من التنازلات، وصلاتك من التقصير، وخلواتك من المحرَّمات.
وقد روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله: فقال: أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم استعدادا له، أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة. وجود إسناده العراقي رحمه الله.
يقول كعب بن زهير:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
قال الحسن البصري رحمه الله: فضح الموت الدنيا، فلم يترك لذي لب فرحا، والموت بأهواله وشدائده، باب يدخل منه إلى غيره، فإما نعيم وإما جحيم.
الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ
يا ليْتَ شعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ
الدَّارُ جنَّةُ خلدٍ إنْ عمِلتَ بِمَا
يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ قصّرْتَ، فالنّارُ
هما محلان ما للناس غيرهما
فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
فليستعد العاقل لتلك اللحظات، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
والموت وروده على القلب محزن، وله العين تدمع، واللسان بالدعاء يلهج، وخاصة من كان نفعه في الناس سائر، وأثره في الخلق ممتد، فله حضوره وله أثره وتأثيره.
من هؤلاء الأخيار والفضلاء والعلماء والنبلاء الذين يحزن القلب، وتدمع له العين، ويحق لهم الدعاء والثناء، فضيلة الشيخ الزاهد العالم العابد الورع، الخفي النقي التقي - أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحد- أبو عمر محمد بن سليمان بن عبد الكريم بن حمد العليِّط. الذي وافته المنية في يوم الأثنين الثالث عشر من ربيع الأول من هذا العام عام ألف وأربع مائة وستة وأربعين من هجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، عن عمر يناهز الخامسة والتسعين.
والعليّط: أسرة من أسر بريدة، ومن أهلها القدماء، كانت مشهورة بالغنى والثروة- كما يقوله الشيخ محمد العبودي رحمه الله في معجم أسر بريدة « ج/15، ص: 474 وما بعدها» - آلت إليها أملاك عبدالعزيز بن الشيخ عبدالله أبابطين الذي كان وكيل بيت المال في القصيم للإمام فيصل بن تركي وابنه عبدالله رحم الله الجميع.
من هذه الأسرة عمر بن محمد العليّط، كان من أهل الثراء، والوجاهة، ومالكي العقارات الثمينة في ذلك الوقت.
وقد أورد العبودي في كتابه الماتع الموسوعي وثائق مبايعات، وتملكات، وأوقاف، ووصايا توضح طبيعة المبالغ الكثيرة والتي لا يوجد لها نظير في الكثرة - حسب تعبير الشيخ العبودي -.
وُلد الشيخ أبو عمر - رحمه الله- في بريدة من منطقة القصيم سنة 1351هـ، توفي أبوه وهو في صباه، فاعتنت به أمه، رحمهما الله.
طلب العلمَ وجدَّ واجتهد في تحصيله، وتتلمذ على يد عدد من أهل العلم، مِنهم:
- سماحة الوالد الشيخ عبد الله بن محمد بن حُمَيد قاضي منطقة القصيم الأسبق الذي خلفَ الشيخ عمر بن سليم رحمهما الله. وكان به حفياً، وله مقرباً. والشيخ محمد بن صالح المطوع، والشيخ صالح بن عبد الرحمن السكيتي، والشيخ صالح بن أحمد الخريصي، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، والشيخ علي السالم رحمهم الله جميعاً.
كما حضر عدداً من دروس العلامة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.
والتحق بالمعهد العلمي في بريدة وقت افتتاحه سنة 1373هـ، وحصل على شهادته العلمية، وممن درس عليهم في المعهد العلمي: الشيخ محمد المرشد، والشيخ عبدالرزاق عفيفي، والشيخ محمد السبيل، والشيخ عبد القادر شيبة الحمد رحمهم الله، ثم تقدم بعد ذلك للدراسة في كلية الشريعة في الرياض، لكنه صرف نظره عنها مؤثراً الجلوس للتأليف والتعليم.
جلس الشيخ للتعليم مبكراً، فبدأ بتدريس صغار الطلبة في مسجد ناصر السيف المعروف (بمسجد ناصر)، جنوب جامع بريدة الكبير (جامع خادم الحرمين الشريفين)، ثم خلَفَ شيخه سماحة الوالد عبد الله بن حميد في التدريس في الجامع الكبير بعد انتقاله إلى مكة المكرمة لرئاسة الإشراف الديني على المسجد الحرام، ثم انتقل بعد عمارة الجامع الجديدة إلى مسجد الشيخ محمد الصالح المطوع شرقَ سوق الخضار، ولم يزل فيه قرابة 47 سنة، إلى أن توفي رحمه الله.
وللشيخ عدة دروس في مسجد المطوع هذا، فهو يجلس للدرس كل يومٍ عدا الجمعة، ودروسه بعد الفجر، وبعد الشروق، وبعد صلاة الظهر، وبعد صلاة العشاء، مع بقائه بعد صلاة العصر في المسجد لرُقيةِ المرضى.
وطريقته في الدرس أن الطالب يختار كتاباً مناسباً لمستواه واهتمامه فيقرأ فيه بين يدي الشيخ كل درسٍ صفحةً أو صفحتين أو أكثر، ثم يعلق الشيخ بكلمات معدودات إذا رأى للتعليق مناسبة.
ويقرأ بين يديه الطلبة كتباً متنوعة، من كتب السلف في التوحيد والعقائد، وكتب التفسير والفقه واللغة العربية، وكتب الحديث كالصحيحين والسنن والمسانيد، والمتون العلميةَ وشروحها، وكتب الزهد والوعظ.
ومجلسه الذي بعد طلوع الشمس متميز، إذ يحضره بعض طلبة العلم الكبار ممن قد تجاوزت أعمارهم الخمسين والستين لا يفترون ولا يغيبون.
وهو على هذا الحال منذ خمسين سنة، بل كانت مدة تدريسه في المساجد قرابة ثلاثة وستين عاماً، ولا يتغيب إلا في حالات المرض الشديد أو شهر رمضان أو الأعياد أو الحج.
وعندما فتحت المدرسة الدينية وهي مدرسة أهلية درّس فيها قرابة سنة.
وقد حج أكثر من سبعين سنة، أما العمرة فكان يعتمر في السنة مرتين، وفي موسم شهر رمضان يجلس في مكة المكرمة إلى يوم العيد.
عُرف الشيخ - رحمه الله- بالزهد والورع، فقد اطّرح الدنيا والاشتغالَ بها مشتغلاً بالتعليم والعبادة، مُجانباً كثرةَ المخالطة والخوض في أمور الناس، ملازماً مسجدَه ودروسه، وهو يوصي بالاشتغال بالعلم والقراءة والانصراف عن الدنيا ومُغرياتها ولزومِ أهل العلم والصلاح، خاصة مع انفتاح الدنيا على الناس وتنافسِهم فيها.
وكان محباً للصدقة والإحسان، يذكر عنه من المواقف :
أنه ذات مرة وقد انتهى درسه حوالي الساعة التاسعة صباحاً بعد أن انتهى الطلاب من القراءة عليه، وقد كان أحد طلابه اعتاد أن يعيد الشيخ إلى منزله بعد الدروس. وقبل أن يركب الشيخ في السيارة ذهب لغرفة خاصة له في زاوية المسجد وأتى بدجاجتين مجمدتين، فتعجب المرافقون من ذلك!، ثم ركب الشيخ، وطلب من صاحب السيارة أن يتوقف عند أحد المراكز ليأتي للشيخ بعبوتي لبن كبيرتين، فطلب الشيخ من قائد السيارة أن يدخل لحي من الأحياء الشعبية المتواضعة، وبدأ الشيخ يشير له أن اذهب من هنا، ثم من هنا، إلى أن وصل لبيت شعبي متواضع، فأمر مرافقه بأن يأخذ دجاجة ولبناً ويطرق الباب ويضعها ويغلق الباب.
وفعل ذلك مع بيت آخر.
وفي مرة أخرى وقد ركب الشيخ رحمه الله، ومعه مرافقوه فأمر بالوقوف عند أحد محلات (القرصان) ليأتي بكيس قرصان صغير بما قيمته خمس ريالات أو يزيد قليلاً!
فاجتهد المرافق وأتى بكرتون كبير بثلاثين ريالاً، فوضع الكرتون في السيارة، وركب وأعطى الشيخ الباقي فتعجب الشيخ وسأل بكم أخذته؟
فقال بثلاثين ريالاً ياشيخ.. فقال الشيخ عبارته المعتادة بابتسامة عذبة (عجيب!)
فأخذ النقود ووضعها في محفظته مردداً « الحمدلله.. الحمدلله «
ثم ذهب لأحد البيوت ووضعها عند الباب.
وفي مرة أخرى:
ركب الشيخ فبدأ يشير لمرافقه قائد المركبة أن اذهب من هنا، ومن هنا.. إلى أن وقف بجوار سور قديم وسط البلد!، فنزل الشيخ وفتح باب حديد عتيق جداً.
ودخل معه وأغلق الباب، وكان هذا في حدود الساعة العاشرة صباحاً!، فإذا هي مقبرة بريدة القديمة!.
والشيخ - رحمه الله - ويصلي في جامع الشيخ الخريصي. يأتي مبكراً جداً، ومكانه معلوم، وكل من جاء إلى المسجد سواءًا مبكراً أو متأخراً إلا ويرى الشيخ قائماً يصلي حتى يدخل الإمام. وعندما يأتي الخطيب يخفف في صلاته.
وفي آخر حياته رحمه الله كان يلازم المسجد يومياً من بعد صلاة العصر حتى صلاة العشاء يذهب بكرسي متحرك بصحبته ابنه.
أخذ العلم عن الشيخ عدد كبير من طلبة العلم، منهم علماء ومحدثون من داخل البلاد وخارجها. ومن هؤلاء الطلاب:
أخي الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن حميد.
أخي الشيخ أحمد بن عبدالله بن حميد.
الشيخ عبد الله بن محمد الدويش رحمه الله.
الشيخ عبدالله بن صالح الخريصي.
الشيخ عبدالله بن إبراهيم السعوي رحمه الله.
الشيخ إبراهيم بن سليمان العمر.
الشيخ سليمان بن عبد الله السويد.
الشيخ محمد بن علي الحفيتي.
الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم بن محمد المشيقح.
السيخ خالد بن فهد السويد.
الشيخ فهد بن سليمان التويجري.
الشيخ سامي المحيميد.
الشيخ خالد بن علي أبا الخيل.
الشيخ محمد المبارك مؤذن الجامع الكبير ببريدة، وهو ممن خدم الشيخ ولازمه في جميع أحواله فكان له كالابن.
اهتم الشيخ بالتأليف، وراعى في موضوعات مؤلفاته ما يحتاجه عامة الناس، فكتبَ في علوم القرآن، والسنن، وبعض الأحكام الفقهية والمواعظ والأدب.
من مؤلفاته:
- التيسير في علم أصول التفسير.
- نصيحة المسلمين فيما جاء في الغش من العقوبة والتحريم 1408هـ.
- توضيح المنهج إلى أحكام الحج، 1415هـ
- مقتطفات من كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية.
- الفوائد البهية مِن كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، 1425هـ.
- النصائح المفيدة في تحريم الغيبة والنميمة، 1426هـ.
- التحذير من المسكر والنرد والورَق، 1405 هـ.
- التِّبرُ المسبوك مِن فرائد الفوائد في علم السلوك، 1432هـ.
- رسالة إلى المفتونين بالربا، 1433هـ.
وقد خلف من الذرية الصالحة/ ثمانية أبناء، وسبع بنات، توفي ثلاثة منهم في حياته، وهم: عبدالعزيز، وعبدالوهاب» توفي رضيعاً»، وأحمد توفي عام 1440 هـ.
والموجود: عمر، وعبدالرحمن، وعبدالله، وعبداللطيف، وسلمان.
وعبدالله عمل في التدريس، وعمر موجه في الشئون الدينة والإرشاد في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتلمذ على أبيه ومشايخ آخرين، وقد أمَّ في مسجد الأمير بن جلوي أربعين سنة، ودرس في المسجد مدة طويلة، وعبدالرحمن يعمل في إدارة التعليم في القصيم، وسلمان تخرج حديثاً من كلية الشريعة في جامعة القصيم.
وقد عرفت الشيخ رحمه الله منذ كنت صغيراً جداً في بريدة وقبل أن ينتقل الوالد رحمه الله إلى مكة المكرمة، فكنت أراه في حلقات الوالد رحمه الله وفي غرفة خاصة في الجامع الكبير، واستمرت المعرفة والعلاقة، فكنت أقصده في مكة المكرمة للسلام عليه إذا جاء حاجا أو معتمرا، كما كنت أزوره في بريدة من الفترة والفترة، وآخر زيارة له كانت قبل عام تقريباً، وحضرت أحد دروسه في منزل شعبي وفيه مكتبة عامرة.
والشيخ رحمه الله لم يتغير في سمته ولا سلوكه منذ عرفته قبل ستين عاماً أو تزيد إلى أن فارق الدنيا في ورعه، وعزلته، وزهده، وتعففه، ودأبه في العلم، وقراءته، وإقرائه، وتعليمه، وهو في كل ذلك قد أتعب من بعده، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وأخلفه في أهله، وعقبه خيراً، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين والعلم والعلماء خير الجزاء.
ياربِ أحسنت بدء المسلمين به فتمم الفضلَ وامنح حُسن مختتم.
اللهم عوض المسلمين خيراً، واحفظنا في ديننا وديارنا، وولاة أمرنا، ومشايخنا إنك سميع مجيب، والحمدلله رب العالمين.