رمضان جريدي العنزي
دائماً أبحث عن فضاء فسيح، ومدن خالية من الزحام، أجدل المسافات سعيًا لذلك، أغازل النجمات ليلا، وارهف السمع لصوت الطيور، وناي حزين، وأرفض من يعكر علي صفو النهار، هي المناخات إذا ما جاءت صارت حالمة، أيمم وجهي شطر الفرح، وجهتي واضحة، وغايتي مثل لون البياض، هو الندى يتدرج في روحي مثل خصال السحاب، والأرجوان نابت في حديقة زاهية، يحيل القلب إلى بلورة من ذهب، أمشي في الطرقات العتيقة والأزقة، أبحث عن الأحياء القديمة، في الزاوية المقابلة عجوز نحيلة، كأنها قوس ربابة، تتوكأ على عصا من قصب، تقذفه الهواجس، وينتابه صخب مرارة، وصدرة من الحزن يئن، ويبحث عن نهاية مورقة، يشتكي للرقاد مرة، ومرة يشتكي للسهاد، يعرف سر الوقت، وشبح الخوف، وسر الهوى والرغبة والعذاب، وطفلة هناك صغيرة دك التراب ظفيرتها، ووجهها من التراب بهت، حافية وأسمالها بالية، أمشي بين الأزقة الضيقة، حائط قصير، وشبه بيت، وعشب يابس، وسقف تهدل، ورائحة ياسمينة عتيقة أضناها الظمأ، بغل يجر عربة، جاموس يخور، وهر وكلب، وثلة مع بعضهم يتبادلون بعض الكلام اللطيف، وبعضهم يضج بالغلط، أراقب لبرهة مشهد الموقف على زوايا المكان، بعدها أيمم وجهي لوجهة ثانية، هو النهر، يندلق ممتدًا كصباح، يروي من مائه عروق الشجر، وفوقه تصدح المراكب التي لا تنام، بهي هو النهر، مثل لوحة عتيقة، لكنها فاخرة، لا سيما إذا أطبق الليل دجاه، يصير الهواء عليلاً، ويبلغ الحلم منتهاه، هي القلوب التي لا تحب الحياة، تشيخ سريعًا، وينبت الشوك على ضفتيها، وقد تحترق، ابدأ مثل الهوى بلا ندى، يصبح خانقًا مختنقًا، كسموم الرياح، إن القلوب التي لا تحب الحياة، قلوب معطلة وفيها قلق، بين وقت وآخر يجيئني طيف (صلبوخ) يسرد معي الحكايا، ومعها يأسرني الحديث، التصاوير عنده مبثوثة، والزمان الذي عاشه، كان ومضة من حنين، يضاجع طيفه، ويغازل ظله، ويبعث للراحلين من الرفاق ابتهالات الرحمة العابقة، يصوغ الحديث، ويطوي معي القصيد على أوزان الهلالي، ويطربني بصوت الهجيني وعزف الربابة والنشيد، ويأخذني معه في سالفات السنين، وكيف تسير القوافل نحو مواطن العشب، ومصبات الغيم، وكيف حال الربيع عندما يجيء الربيع، تزدهر الأرض، ويرقص الطير، والنفوس حينها تنتشي، يقيمون حينها كرنفالًا للفرح، يجترون الكلام تلو الكلام، ويضاحكون بعضهم بفرح، كأنهم ولدوا للتو، يعرفون عمق اللحظة ووقعها، يزنون الكلام، ويمقتون الخديعة، ويدرون جيدًا خطوط التعدي، ينيخون الرواحل، ويدلون لها الدلاء، ويسهبون بالحديث عن ناقة عجفاء، أو نعجة مريضة، وعن خيل وطريدة، وعسس يبحثون عن عشب وماء في الأماكن البعيدة، وانفراجات ضياء، وخيول تتهادى غرة الصبح، والوقت عندهم طويل، يبحر بي في ذكريات السنين، وصور لا أشبع منها، حينما يستعيد معي ما مضى كرواية، لا سيما وهو العابر عن فرح لروحه المتعبة، وجسده المنهك، في الساحات القديمة أفيق من طيف صلبوخ على صوت الباعة، والمستهلكين زرافات يبحثون عن أشيائهم التي يبتغون، وأنا أبحث عن صور فريدة، ووجوه عتيقة.