د.عبدالله بن موسى الطاير
إسرائيل وحزب الله عدوان حميمان، كل واحد منهما ضروري لبقاء الآخر وتمكنه، وكل طرف يستثير همة الآخر، ويدفعه لمزيد من التعبئة والاستعداد وابتداع وسائل الردع والهجوم لمفاجأة الطرف الآخر. ليكن ذلك، وبالشامي «يصطفلان». أجتر ما سبق وأنا بصدد التعليق على غزوة البياجر، وأجهزة الاتصال اللاسلكية التي أودت بالآلاف بين قتيل وجريح في بحر الأسبوع الماضي.
من عجيب وغريب الصدف أن ذلك الأسبوع شهد العديد من الأحداث التي شرخت العلاقة بين تقنيات الاتصال المحمولة والمشغلة عن بعد وبين المستخدمين؛ الرئيس الشيشاني الذي ركب رشاشا فوق سيارته الهدية من مصانع تسلا، اتهم إيلون ماسك أنه عطل الانتفاع بالمركبة عن بعد، والأول حظر جميع قنوات شبكة روسيا اليوم على منصة إكس، ثم كانت تفجيرات البياجر عن بعد.
جرت العادة أننا لا نناقش المألوف، ولا نرتاب فيما اعتدنا على التعايش معه، ذلك أنه يصبح جزءا من حياتنا اللحظية، فكل ما قيل عن الجوال من تجسسه علينا، ومن أنه خطر على صحتنا، ومن جمعه لمعلوماتنا الشخصية والخاصة وتبادلها مع المعلنين، لم يقنعنا لإعادة التفكير في تطبيع حياتنا معه، فنحن معاشر البشر نصطف في طوابير في غسق الليل بانتظار ضوء النهار لنتسابق على شراء النسخ الجديدة من هذا الجهاز الذي نحمله معنا، كما نحمل أسماءنا، وتتابعنا ظلالنا. لكن ماذا لو قررت دولة معادية وقادرة على تفخيخه وتفجيره عن بعد، في أيدينا، أو تحت وسائدنا، أو تحت أحزمتنا وفي جيوبنا؟ ربما لم يطرح هذا السؤال قبل الساعة الثالثة والنصف بتوقيت الضاحية الجنوبية من يوم الثلاثاء 17 سبتمبر 2024م.
على المنوال نفسه وصلت ثقة المستخدمين بمنصات التواصل الاجتماعي إلى درجة لا تقبل التشكيك في ديمومتها وكأن قرارها بأيدينا، مما شجعنا على التمادي في تخطيط سياساتنا منتفعين من قوة وصولها، وسرعة تأثيرها، وروجنا عليها لانتصاراتنا، وصنعنا صورتنا الذهنية،كما نريد ونتمنى، وابتكرنا أعداء، وقصفنا جباههم عليها، واستخدمناها منافذ للتواصل مع الرأي العام، وسخرناها لخدمة مصالحنا، وأغفلنا ما سواها من وسائل، ولأن ذاكرتنا قصيرة، وسرعان ما نغرق في زحمة النشوة، فإننا نسينا أن تلك المنصات حظرت رئيس أكبر وأعظم دولة في العالم، الرئيس السابق لأمريكا دونالد ترامب، وكان حظره وهو في آخر أيامه في البيت لأبيض، ليجد نفسه بين عشية وضحاها كأن لم يكن له تأثير من قبل، مما دفعه لتأسيس منصته الخاصة لضمان أن قرارها بيده. واليوم توقع شبكات التواصل الاجتماعي العقاب على روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وكل من يعارض أجندة الغرب أو يهدد السلم والأمن وفق تعريف المنظومة الليبرو ديموقراطية لهما. ليس هذا فحسب، بل إن الغرب لا يتقبل شيوع منصة مؤثرة عالميا لا يمكنه التحكم فيها. مثال على ذلك تيك تكوك وتيليغرام اللتان تواجهان متاعب جمة في أمريكا وفرنسا وغيرهما.
غزوة ذات البياجر تخطت إجراءات العقاب السلمي بالحظر والمنع والتعنت، إلى تفخيخ وسائل الاتصال اللاسلكية، وهذه مجرد مثال لما يمكن أن يؤول إليه حال الجوالات، والحواسيب، والتلفزيونات، والطائرات وجميع التقنيات التي يمكن التحكم فيها عن بعد؛ في لحظة يمكن أن تتحول إلى مفخخات تقتل الناس عشوائيا، ودون ترك أثر لتتبع المجرم.
هل هي نهاية العولمة، بتقويض الثقة التي بنيت عبر عقود في التقنية، ووصلت الإنسان بأخيه الإنسان عبر الكرة الأرضية؟ أم هي بداية التكشير عن الأنياب للمحافظة على التفوق في النظام العالمي؟ أما أننا بصدد مرحلة من العبث بالأمن والاستقرار والسلم الدولي من أجل تحقيق مصالح سياسية ضيقة الأفق؟
إننا بغض النظر عن إجابات الأسئلة السابقة أمام تصاعد وتيرة الخوف وعدم اليقين، فغزوة البياجر خلقت إحساسًا بالقلق بشأن استخدام التكنولوجيا اليومية، مما سيؤثر على الشعور بالأمان. فاستخدام الأجهزة المدنية كأسلحة يمحو الخطوط الفاصلة بين الأهداف المدنية والعسكرية، أي بين الشعور بالأمن والشعور بالخوف.
العالم يقف على عتبات جبهات جديدة في الحرب والمناجزة، حيث يتسابق الخصوم على تسليح التكنولوجيا المستخدمة في الحياة اليومية مع كل حي، وهو ما يشي بهجمات قادمة أكثر تدميراً ولا يمكن التنبؤ بها، وتستهدف البنية التحتية الحيوية والأفراد غير المحاربين.
لا أظن أن نظاما دوليا عجز عن إنقاذ المدنيين في غزة، قادر على تحمل مسؤولياته لإيقاف اللعب بالمسلمات، واستعادة المشاعر الإنسانية الوجلة التي دلفت فجأة إلى حالة من عدم اليقين والتشكك في كل ما اعتادت التعامل اليومي واللحظي معه. إن الخوف من التكنولوجيا المسلحة يمكن أن يخنق الابتكار ويعيق تطوير تقنيات جديدة تعتمد على الاتصال والاتصالات، وهو تطور مقلق يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على الأمن العالمي والحريات الفردية على حد سواء، فالمعالجات السريعة قد تمس خصوصيات الأبرياء، وتقيد حرياتهم وحركتهم.