د. أحمد بن محمد السالم
يتزامن يوم 23 سبتمبر من كل عام مع ذكرى احتفال الشعب السعودي بتوحيد بلاد شاسعة مترامية الأطراف، وإحلال الأمن والسلام محل التناحر والاقتتال، وتحقيق الألفة والوئام بين مختلف القبائل والعشائر، تحت راية التوحيد. كل هذا تم بقيادة صقر الجزيرة ومؤسس الدولة السعودية الثالثة الملك عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه- في ملحمة بطولية استغرقت أكثر من ثلاثين عاماً، بدأها بافتتاح الرياض عام 1902م، والتي كانت لا تتجاوز آنذاك بضعة من الكيلومترات المربعة، وانتهت باستعادة أملاك آبائه وأجداده، وبسط نفوذه على أكثر من مليوني كيلومتر مربع من شبه الجزيرة العربية، أطلق عليها ما يسمى بالمملكة العربية السعودية في سبتمبر 23 لعام 1932م، وتجسدت وحدة البلاد والعباد، وباتت الظروف مهيأة لتأسيس كيان قوي، قادر على مواجهة التحديات والصعاب، وازداد قوةً ورسوخاً وتطوراً مع بداية العهد الزاهر لمولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي اختار بتأييد أعضاء هيئة البيعة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولياً للعهد، قائداً فذاً وشاباً ملهماً، لبست المملكة في عهدهما حلية جديدة، وشهدت البلاد تحولات جذرية اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة في فترة زمنية قياسية من خلال رؤية وطنية واعدة، تتوفر فيها كل مقومات التخطيط الاستراتيجي الناجح، هندسها سيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء وأتقن مدخلاتها ومخرجاتها.
ورؤية المملكة وقد دخلت عامها التاسع، استطاعت ان تترجم الكثير من أحلامنا إلى واقع نعيشه ونتعايش معه في حياتنا اليومية؛ فقد سجلت المملكة على الساحة الدولية في عدد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية مراتب متقدمة تفوق في بعض الأحيان الدول المتقدمة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، حققت المملكة هذا العام المرتبة السادسة على مستوى العالم في مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية، متخطية بذلك الكثير من الدول الصناعية الكبرى كأمريكا وبريطانيا، حسب ما ورد في التقرير الصادر عن هيئة الأمم المتحدة مؤخراً.
وفي العام ذاته احتلت المملكة المرتبة الأولى عالمياً في الأمن السيبراني، وفقاً لما صدر عن (The World Competitiveness Center). كذلك بلغ نمو السياح الدوليين القادمين للمملكة الثاني عالمياً في عام 2023م، بواقع (27.4) مليون سائح من اصل (109.3) مليون سائح، في وقت كانت أعداد التأشيرات السياحية تكاد لا تذكر قبل اعتماد الرؤية في عام 2016م، واقترن ذلك بحوكمة قوية ومتينة في إجراءات الاستقبال والانتقال والإقامة والإعاشة للسياح الأجانب، وإعداد برامج سياحية غنية وثرية تشمل وجهات سياحية وترفيهية وثقافية وتراثية عالمية كالبحر الأحمر ومشروع العلا وبوابة الدرعية وحي طريف وجدة القديمة، في ظل أمن وارف ظلاله يخلو من الجرائم الإرهابية وأصحاب الفكر المتطرف والمنحرف.
ومن أحلامنا التي تحققت ما بين عشية وضحاها وبعد طول انتظار، قيادة المرأة للسيارة بالمملكة في 24 يونيه لعام 2018م، واتساع مشاركتها في سوق العمل، لتصبح في الربع الأول من هذا العام %35.8، بعد أن كانت في حدود %20 قبل الرؤية. واتبع ذلك انخفاض في معدلات البطالة للمرأة السعودية بأكثر من %50، لتصبح %14.2 بدلاً من %34.5 في عام 2015م.
تواجد العنصر النسوي إلى جانب شقيقها الرجل في كافة الأعمال والمهن، بتقبل اجتماعي وبدون تجاوزات، كان نتيجة لحوكمة قوية. والدليل على ذلك، صدور نظام مكافحة التحرش في 7/6/2018م وبدء العمل به فوراً، كجزء من الترتيبات المسبقة لقيادة المرأة للسيارة، وحمايتها من أي ابتزازات أو تعديات. كما صدرت الكثير من الانظمة والتعليمات، لضمان تكافؤ الفرص ما بين الجنسين.
وفي واقع الأمر، كرست رؤية المملكة 2030 أسس الحوكمة الرشيدة في كل عمل أو نشاط تقوم به الدولة أو القطاع الخاص أو القطاع غير الربحي، حيث اشتملت الرؤية على برنامج تعزيز حوكمة العمل الحكومي، ونصت على تطبيق معايير الحوكمة من عدالة ونزاهة ومكافحة فساد.. وميزانية الدولة بحكم أهميتها وملامستها لاحتياجات المواطنين، حظيت ومنذ البداية بالنصيب الأوفر من إجراءات وتدابير الحوكمة المشددة. فقبل الرؤية، كانت الحوكمة محدودة، إذ تنفرد وزارة المالية بإعداد الميزانية السنوية ومراجعتها وإحالتها إلى مجلس الوزراء قبل أيام من الجلسة الوزارية المحددة لعرضها واعتمادها، وأدى ذلك إلى سوء تقدير الإيرادات والمصروفات وحدوث تقلبات في ميزانية الدولة السنوية، يصعب الاعتماد عليها في بناء اقتصاد وطني قوي ومستدام. ومثال ذلك ما حدث في ميزانية 2015م من عجز حاد تجاوز (360) مليار ريال، أي ما يعادل %40 تقريباً من إجمالي الميزانية، والفرق ما بين الميزانية التقديرية والفعلية شاسع جداً.
ولكن في السنوات الأخيرة، نجد الفرق ما بين الميزانية التقديرية والفعلية لا يتجاوز %10، بحكم التزام وزارة المالية بالمعايير الدولية عند إعداد الموازنة السنوية، وحوكمة كافة إجراءات الميزانية منذ البداية ولغاية الاعتماد والتنفيذ والمتابعة والتقييم والمراجعة. فقبل عرضها على مجلس الوزراء يتم دراستها ومناقشتها من اللجنة المالية المشكلة من الديوان الملكي ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية.
فاليوم أصبح الإعلان عنها بشفافية مطلقة، ولم يعد المواطن ينتظر حتى نهاية العام المالي ليقف على تفاصيل الإيرادات والمصروفات، بل هناك تقارير أداء ربع سنوي للميزانية، تصدر عن وزارة المالية، يستطيع من خلالها الوقوف إلى حد كبير على بنودها.
وعلاوة على ذلك، يصدر عن وزارة المالية إعلان تمهيدي للميزانية السنوية القادمة قبل أشهر من عرضها على مجلس الوزراء لإقرارها. فأصبح لدينا ميزانية تتسم بالشفافية والإفصاح والاستدامة، خالية من كل أنواع الهدر والفساد، مما مكن الدولة من المضي قدماً في تحقيق أهداف ومستهدفات الرؤية، بل تجاوزنا وفي منتصف سنوات الرؤية السقف المحدد لبعض المستهدفات، كنسبة مشاركة المرأة في سوق العمل، وتملك المواطنين للسكن، وإعداد السياح.
فالحوكمة القوية تعني باختصار مؤسسات حكومية قوية وفاعلة، مما جعل المملكة تسجل درجة عالية في مؤشر الحكومة الفاعلة الصادر عن البنك الدولي لعام 2023م. فاليوم تحظى قيادة هذه البلاد بالهيبة والتقدير من كافة دول العالم والمنظمات الإقليمية والدولية، اذ أثبتت قدرتها على الوفاء بالتزاماتها وتعهداتها للشعب السعودي والاستجابة لمتطلباته واحتياجاته، وتمكنت من إدارة ثروات وموارد هذا الوطن بكل فعالية وكفاءة، واكتسبت على أثرها مصداقية عالية محلياً ودولياً، ورسخت جذور هذا الكيان بخلق عمل مؤسسي لا يخضع للاجتهادات الفردية، أو المصالح والمنافع الذاتية، وباتت الحكومة أقوى ما تكون لحماية الوطن، والعبور به إلى دائرة الدول المتقدمة من خلال رؤية طموحة وشاملة، لن تترك أي من أبناء هذا الوطن في المقعد الخلفي، وسيعم نفعها أرجاء المعمورة بإذن الله، كل عام ووطننا الغالي في أمن وأمان ورخاء وازدهار، وقيادتنا الرشيدة في خير ورفاه، وعز وسؤدد.
***
*نائب وزير الداخلية سابقا-أمين عام مجلس وزراء الداخلية العرب سابقاً