العقيد م. محمد بن فراج الشهري
امتازت السياسة الأمريكية في هذه المرحلة بقدر من التوازن فيما يخص الصراع العربي - الإسرائيلي، إذ خرجت بعض المبادرات الأمريكية إلى النور لسد الهوة بين العرب وإسرائيل، وذلك طمعاً من أمريكا لاستمالة العرب وتكوين تحالف دولي ضد النفوذ السوفييتي المتزايد في المنطقة. وما الموقف الأمريكي من العدوان الثلاثي على مصر إلا خير دليل على ذلك.
في هذه المرحلة «اعتمدت السياسة الأمريكية نظرة تقليدية إلى القضية الفلسطينية باعتبار أنها صفيت بقيام دولة إسرائيل عام 1948، وكان الأثر الوحيد المتبقي لها هو ظهورها سنوياً على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة كمشكلة لاجئين، فيما انصبت الجهود الدولية على التخفيف من معاناتهم من خلال المساهمة في تقديم المساعدات العينية والمادية لمخيمات اللاجئين. حيث واصلت أمريكا سياسة تقديم المساعدات المادية والإنسانية للاجئين، حيث بلغ حجم المساعدات الأمريكية المقدمة للأونروا في الفترة الواقعة بين 1948 - 1967 ما يقارب 411 مليون دولار، أي ما يقارب 65% من ميزانية الوكالة الدولية.
كما أن أمريكا تقدمت في هذه المرحلة بمشاريع عديدة لحل المشكلة الفلسطينية، ولكنها كانت في كل الأوقات تنطلق من رؤية صهيونية إسرائيلية لحل الصراع، ولهذا فشلت أغلب المشاريع. وأيضاً حاولت أمريكا الموازنة بين التزامها بأمن وبقاء إسرائيل، من خلال تقديم كافة أشكال الدعم للكيان الصهيوني وبين ظروف الحرب الباردة، التي كانت تجبرها على القيام بمناورات تكتيكية لكسب بعض المواقف على الساحة، ولكن أمريكا حكومة وشعباً ظلت خلال هذه الفترة مخلصة لالتزامها الأخلاقي والديني تجاه إسرائيل وهذا ما سنلاحظه خلال عرض مواقف الرؤساء الأمريكيين تجاه إسرائيل.
هاري ترومان 1945 - 1953
عندما تولى ترومان منصب الرئاسة خلفاً لروزفلت، كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين تأييداً للمطالب الصهيونية، حيث كان لجهوده الفضل الأكبر في إنشاء إسرائيل حتى أن الحاخام الأكبر قال له: «لقد وضعك الله في رحم أمك لتعيد إنشاء إسرائيل». ففي 31 آب، أغسطس عام 1945، طلب الرئيس ترومان من رئيس الوزراء البريطاني أتلى السماح الفوري بدخول مئة ألف يهودي من يهود أوربا إلى فلسطين.
ولكن رد أتلى كان غير مشجع، حيث انه اشترط أن تتحمل أمريكا الأعباء العسكرية والاقتصادية لتنفيذ هذا الطلب ولكن ترومان رفض ذلك «وصمم على عدم الاضطلاع بأي مسئولية سياسية أو عسكرية تنفيذا لهذا القرار»، ونتيجة لذلك بدأت اتصالات بين بريطانيا والزعماء الصهاينة المدعومين من أمريكا لتحقيق مطالبهم، ولكن فشل الاتصالات، دفع ترومان إلى تأييد الحل الصهيوني المتمثل بتقسيم فلسطين.
«إنه كان يعتقد بأن حلاً على هذه الصورة سيصادف تأييدا من الرأي العام في الولايات المتحدة، وصدفة على حد قوله صدر هذا البيان في يوم عيد كيبور (الغفران اليهودي) ولكن لم يمض وقت طويل حتى صدر رد الفعل العربي على بيان ترومان، ففي رسالة من الملك عبد العزيز بن سعود، إلى ترومان اتهم فيها اليهود بأنهم يضعون مخططات ضد الأقطار العربية المجاورة. وانتهى الملك عبد العزيز إلى القول إن بيان ترومان قد بدل الموقف الأساسي في فلسطين، خلافاً للوعود السابقة. وفى الرد على ذلك بتاريخ 26 أكتوبر 1946م، أدعى ترومان أن تأييد وطن قومي يهودي كان دائماً من صلب السياسة الأمريكية المنسجمة مع نفسها».
ولهذا فقد مارست أمريكا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية ضغوطاً على بريطانيا بصفتها القوة الانتدابية في فلسطين، لعرض مشروع تقسيم فلسطين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة وليس أمام مجلس الأمن، لتخوفها من قيام بعض الدول باستخدام الفيتو ضد قرار التقسيم.
وخلال المناقشات الحادة في أروقة الأمم المتحدة، التي دارت حول طبيعة هذا القرار وجوانبه السياسية والقانونية والإنسانية أظهر الأمريكان حماساً منقطع النظير إلى درجة أنهم مارسوا ضغوطات، وكل أشكال التأثير الأخرى على بعض الدول الأعضاء للتصويت لصالح هذا القرار.
وبعد مشاورات عديدة رفع مشروع تقسيم فلسطين إلى الأمم المتحدة، حيث أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد أن قامت أمريكا بالضغط على كثير من الدول لتأييد المشروع، حيث يعتبر البعض إن أهم ما يسجل لهاري ترومان في سياق تأييده للصهيونية، موقفه من مشروع قرار التقسيم، إذ لم يكتف بإعطاء توجيهاته للوفد الأمريكي في الأمم المتحدة بالتصويت إلى جانب التقسيم يوم 29 تشرين الثاني نوفمبر 1947م، بل طلب من المسئولين الأمريكيين أن يمارسوا شتى ألوان الضغط والإغراء من أجل إقناع الحكومات الأخرى بالتصويت إلى جانب التقسيم، ويقول كبير الدبلوماسية سمنر ويلز: «بأمر مباشر من البيت الأبيض فرض المسؤولون الأمريكيون، كل أنواع الضغوط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، خاصة مع تلك الدول المتمردة أو المعارضة للتقسيم ولم يتوان البيت الأبيض عن استخدام الوسطاء والوكلاء في سبيل ضمان الأكثرية اللازمة للتصويت». كما كتب وكيل الخارجية الأمريكي (روبرت لأفل) عن دور البيت الأبيض ما يلي: «إنني لم أتعرض في حياتي قط لمثل ما تعرضت له من ضغوط قبيل مشروع التقسيم خاصة تلك الأيام التي سبقته من صباح الخميس إلى مساء السبت».
وبعد صدور قرار التقسيم ورفض العرب له، وإحساس بعض الدول التي صوتت لصالحه بخطأ، موقفها «ظهرت محاولات جادة لعرض القضية على محكمة العدل الدولية، ولكنها تحطمت بوقوف الولايات المتحدة بكل ثبات ضد عرض أية مسألة تتعلق بفلسطين على تلك المحكمة، وهددت باستخدام الفيتو في مجلس الأمن في حالة تقديم طلب للمجلس بعرض قضية التقسيم على المحكمة».
وقد هدفت الولايات المتحدة من خلال تبنيها ودعمها لقرار التقسيم عام 1947 إلى إضفاء الشرعية الدولية الكاملة للدولة اليهودية على أرض فلسطين، وتثبيت الكيان الإسرائيلي في قلب المحيط العربي. وكان قرار التقسيم المدخل الشرعي في إطار القانون الدولي لقيام دولة إسرائيل وقبولها عضواً فاعلاً في المتحدة بمساعدة الولايات المتحدة نفسها، كما أن الدعم الأمريكي هدف إلى إرضاء اللوبي اليهودي والجماعات الصهيونية المسيحية خاصة البروتستانتية في دعمها لقيام دولة إسرائيل، «لذلك استند المجلس القومي اليهودي الى قرار الأمم المتحدة رقم 181 في إعلانه عن قيام دولة إسرائيل عام 1948م، كما أن الأمم المتحدة استندت إلى القرار نفسه عندما قبلت إسرائيل عضوا فيها عام 1949م».