د.زيد محمد الرماني
وضع خبراء الأمم المتحدة في تقريرهم الذي صدر بعنوان: (الزيادة المرتقبة في عدد السكان في العالم) إحصاءاتهم على أساس ستمائة سنة مقبلة، وذلك لكي يبرزوا مدى الضخامة المذهلة التي تطرأ على المعدل الحالي لزيادة عدد السكان في العالم. وقد أثبت هذا التقرير أنه في غضون هذه الفترة القصيرة نسبياً، إذا سارت الأمور سيرها الطبيعي - وهذا بالطبع ما لا يمكن تحقيقه - فإنه لن يكون هناك على وجه الأرض إلا مكان لوقوف البشر فقط.
وإذا أخذنا في الاعتبار مساحة اليابسة بأكملها، بما في ذلك المناطق غير الآهلة بالسكان في الوقت الحاضر - أو التي لا يمكن الوصول إليها مثل قمة أفرست - فلن يكون لكل فرد سوى متر مربع واحد من الأرض لكي يعيش عليه.. إن ذلك ليدعو إلى السخرية!
ومن الأمور التي لا تدع مجالاً للشك أن الطبيعة إذا واجهت التحدي في أية صورة كانت، فإنها تثأر لنفسها، أما إذا وجدت معاملة حسنة وسياسة تتسم باللطف إلى جانب أيد كريمة ترعى التربة، وتحرص على حمايتها، فإنها تستجيب لمثل هذا النوع من المعاملة بل وتدر محصولات متزايدة بفضل التشجيع الذي تلاقيه.
وخلاصة القول أن هناك في جميع أنحاء العالم آثاراً تذكر الفرد بكيفية ثأر الطبيعة لنفسها.
لذا، يمكن القول من الناحية الجغرافية أن الثورة الصناعية تنتمي إلى (سكان المنطقة المعتدلة الدافئة) ما لم يستطع الإنسان في هذه المنطقة وفي غضون فترة لا تتجاوز مائتي عام أن يسيطر على الظواهر الطبيعية سيطرة تامة وأن يحقق رخاء صناعياً يجعله في مكانة تفوق مكانة الآخرين.
ولضخامة الأعمال التي حققها الإنسان ومدى تكاملها بدأ يعتقد أنه لابد أن تكون هناك صفات داخلية تميزه عن غيره من الأجناس الأخرى.
جاء في كتاب عالم جائع قول مؤلفه ريتشي كالدر: إن نظرة واحدة إلى الخريطة قد تجعلنا نخفف من شعورنا بالغطرسة، بل تجعلنا نعيد التفكير مرة أخرى.. لقد اعتمد الرخاء الصناعي الذي بدأ باختراع الآلة البخارية في أول مراحله على الفحم الذي يعد وقوداً رخيصاً، ثم كان البترول، والغاز الطبيعي، اللذان كانا جيولوجيا وجغرافيا منذ ملايين السنين.
ونظراً لأن الفحم رخيص السعر وفي متناول اليد، أخذت المصانع في خلق الثروة التي في استطاعتها أن تولد سلسلة متصلة من الرخاء وتوسع مدارك المعرفة. ولكن نظرة واحدة إلى الخريطة الموضحة للموارد الطبيعية تبين السبب في أن سكان المنطقة (المعتدلة الدافئة) يتمتعون بمزايا خاصة..
إن الوقود الذي هو أساس لما حققوه من رخاء منقطع النظير كان في متناول أيديهم.
ومن هنا فإن الطبيعة تعد مجالاً للتنافس من أجل البقاء بين ملايين وملايين من الكائنات التي تنتمي إلى هذه الأرض، كما ننتمي إليها نحن بني الإنسان.
ونحن نتناسى أن السكان الذين يستوعبهم العالم ليسوا مجرد الأجناس البشرية أو الحيوانات المستأنسة، بل إن العالم مليء بالطيور والحشرات وملايين من الكائنات الأخرى التي نطلق عليها الآفات أو الأوبئة إذا ما سببت لنا أي حرج.
ومما هو جدير بالذكر أن هناك مساحات من الأراضي لا يكاد حجم الواحدة منها يزيد على حجم كرة القدم، في حين نجد أنها تستوعب من الكائنات ما يزيد على عدد الأفراد الموجودين على سطح كوكبنا هذا.
إن من الأمور التي بدت واضحة تماماً أمام أعين الساسة في نهاية الحرب العالمية الثانية، أن هناك عاملين يشكلان خطراً جسيماً على البشرية جمعاء، بل ربما يفوقان في أهميتهما الحدود الوطنية لأية دولة.. هذان العاملان هما القنبلة الذرية والتهديد بحدوث مجاعة؛ وقد دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة في أول جلسة لها إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتجنب هذين العاملين.
لذا يرى (بويد أور) أن التوسع السريع في الاقتصاد الدولي بدرجة تجعله يستوعب الزيادة الكبيرة التي تطرأ على الإنتاج الزراعي والصناعي، هو البديل الوحيد للبطالة التي تؤدي إلى أزمة اقتصادية أخرى على درجة بالغة من الخطورة. أو ربما تؤدي إلى أزمة اقتصادية أكبر.
لقد أخذ الإنسان يناضل من أجل التغلب على الحدود التي فرضتها بيئته المحلية، فمنذ أن أقلع عن عملية صيد الحيوانات وتوفير الأغذية أصبح زارعاً يقوم بفلاحة الأرض وأخذ يحاول أن يخضع الطبيعة لمواجهة احتياجاته المتعددة.. كما أخذ أيضاً في استخدام قواه الجسمانية والعضلية محاولاً التغلب على الحدود التي رسمتها له الطبيعة في هذا المجال.
ونظراً لعملية التنافس القائمة بينه وبين غيره من بني الإنسان وغير الإنسان، فقد وجب عليه أن يستخدم ذكاءه في زيادة الطاقة الإنتاجية الكامنة فيما لديه من أراض زراعية.. وعندما وجد أول من قاموا بفلاحة الأرض أن البذور في إمكانها أن تحقق نمواً أفضل عندما تكون الأرض قد حصلت على كفايتها من مياه الري، بدأوا في حرث الأرض الخصبة التي تحتوي على كمية كبيرة من الطمي وبذلك أمكنهم إدخال الحضارة والمدنية في البلاد.
ولكن كان هناك في الماضي دائماً حضارات تحل محل الحضارات الزائلة، ترث عنها ثقافاتها، وترتكب الأخطاء التي ارتكبتها.. وهذه الحضارات تنشأ في المناطق المحدودة جغرافيا؛ ولكن حضارتنا اليوم ليست مرتبطة. إن العالم الذي يكون مجتمعاً مترابطاً متداخلاً لا يعمل حساباً للفوارق والأبعاد، ولا يستطيع أن يتحمل الفقر القابع في قلب الرخاء بأية حال.
إن هذه المشكلة التي كنا بصدد بحثها تنطبق على العالم أجمع، ونحن لا نأمل إلا أن تظل الشعوب على استعداد لمساعدة بعضها بعضا، على ألا تعد المعونة الاقتصادية صورة من صور الصداقة فإذا اعتبرت كذلك فإن الحكومات لن تسهم بشيء.
إن مشكلات إطعام العالم الجوعان تعد مشكلات متداخلة للغاية. فنجد أن الأموال ضرورية من أجل مساعدة الدول الفقيرة على النمو؛ ولكن هذه الأموال ليست إلا عنصراً واحداً في هذه العملية المتشعبة. إن الدول المتقدمة التي سوف تقوم بتقديم هذه المساعدات المؤقتة، لا في صورة أموال فحسب، بل أيضاً في صورة معرفة وحرف مختلفة، لابد أن تقوم بدراسة مشكلات هذه الدول حتى تسفر مساعداتها عن نتائج ملموسة في عملية النهوض بشعوب هذه الدول.
وللمرة الأولى في التاريخ أصبح الإنسان يملك من النفوذ ما يمكنه من التحكم في عملية التطور المستمر؛ وأن في استطاعته أن يمارس هذا النفوذ عن طريق استخدام التجارب النووية في القضاء على الجنس البشري، أو أن يثبت – نتيجة لجهله بمشكلة الجوع - أن نظرية (مالتوس) نظرية خاطئة. إن في استطاعته أن يتطلع إلى القمر، ولكن ليس في إمكانه أن يقوم باحتلاله.. كما أن في استطاعته أيضاً أن يستخدم ذكاءه وحكمته في التعاون مع بني جنسه في مجالات التنمية السلمية على سطح الأرض.
***
- المستشار الاقتصادي وعضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية