د. تنيضب الفايدي
إن ربط الأجيال الحالية بالماضي وتذكيرهم بالإنجازات العظيمة التي حققها أجدادهم أمرٌ مهم للغاية، وذلك للمحافظة والمواصلة على التنمية والارتقاء والنهوض والتقدم، وهذا الأمر ليس بمحدث، فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يسردون أمام أولادهم وأحفادهم ما حدث من الوقائع والحوادث في الماضي، بل البعض يأخذونهم إلى موقع الحوادث، لأن ذلك يربط الإنسان بماضي أجداده، فيفخر به ويحافظ عليه، فعن عبد الله بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما أنه قال: «كان أبي سعد بن أبي وقاص يأخذ بأيدينا أنا وإخوتي، يوقفنا على مشاهد رسول الله وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروي لنا ما شهد من الماضي، ويقول لنا: «تعلموا تاريخكم، وتعلموا سيرة نبيكم، فإنها مجدكم ومجد آبائكم».
اليوم الوطني هو ذكرى لتوحيد المملكة وتأسيسها على يدي جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - بعد ملحمة البطولة الطويلة، ففي هذا اليوم 17 جمادي الأولى 1351هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م تمّ إعلان قيام المملكة العربية السعودية بعد توحيد كل أجزاء الدولة السعودية، فاليوم الوطني مناسبة مهمة لتنشيط الروح الوطنية وتعزيز الانتماء وحبّ الوطن وتعزيز قيم التضامن والأخوة بين أفراد المجتمع، وإبراز القيم الاجتماعية، ورفع الوعي حول تراث وثقافة المملكة وتاريخها العريق، كما تؤدي هذه المناسبة إلى تشجيع التلاحم والتعاطف والمحبّة بين القادة والمواطنين وبين المواطنين أنفسهم، وذلك باستذكار الإنجازات الوطنية العظيمة الهائلة التي حققتها القيادة الرشيدة ومَن سبقها، فهذه الإنجازات الهائلة في شتى المجالات، ما هي نتيجة فترة قصيرة، بل نتاج عقود طويلة من العمل الدؤوب والرؤية الثاقبة والعبقرية الفذة للملك الراحل المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود - رحمه الله-، ومن أتى بعده من الأبناء والأحفاد، حتى أصبحت من الدول الرائدة المؤثرة في السياسة والاقتصاد العالمي، هذا التاريخ غيّر مجرى التاريخ في الجزيرة العربية كلّها من حالة الضعف والانقسام والتفرق والأميّة وسوء الأمن إلى مجتمع حضاري متطور والتعليم والرخاء والأمن والاستقرار.
اليوم الوطني من أهمّ المناسبات الوطنية، فهو تعبير حقيقي للحبّ الذي يكنّه الشعب العظيم في قلوبهم تجاه بلدهم والقيادة الرشيدة؛ لأن الوطن يشكّل عشقًا خالدًا لكلّ إنسان على مرّ السنين؛ إذ يستشعر فيه المواطن كلّ يوم نعمة الأمن والأمان والاستقرار والرّخاء والشموخ والعزّ، فحبّ الإنسان لوطنه أمرٌ فطري؛ لأنه مسرح أحداث حياته بمراحلها المختلفة، وحياة أجداده، فلايمكن نسيان الوطن الذي سكن فيه صاحبه وجال في مرابعه، سكنه روحاً وجسداً، وهام به حباً وحنيناً، هام بصحرائه الواسعة، وجباله المتنوعة، وأوديته باختلاف أبعادها، كما هام بسمائه وجمالها، وهوائه بنسيمه ورياحه، ورياضه المزهرة، ومراتعه الممرعة، وخيرات مزارعه، كما أحبّ بحاره بشواطئها الجميلة وسواحلها الساحرة، لذا فإن حبّ الإنسان لوطنه خصلة شريفة، وخلّة رفيعة، وخلق حميد، وأدب سامٍ، والأدب العربي مليئة بشواهد كثيرة لهذا النوع من الحبّ، وتلك الأشعار والشواهد التي خلدها الشعراء والأدباء تبهر النظر، وتأسر القلب والروح، وتثير في النفس حبّ المكان، وتخلد حبّ الوطن في أهله، وتولد الاعتزاز به، والوقوف للدفاع عنه والتضحية له، فعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه يغلبه الحنين، وهو آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر أهله ووطنه مكة، فيقول:
يا حبّذا مكة من وادي
أرضٌ بها أهلي وعوّادي
أرضٌ بها ترسخ أوتادي
أرضٌ بها أمشي بلا هادي
ومالك بن الريب - رضي الله عنه- يخرج غازياً في جيش عثمان بن عفان رضي الله عنه فتدركه المنية بـ (خراسان) وهو في غُربة، فيشكو البعاد ويشعر الشوق والحنين إلى دياره وأركانه ولايتمنى شيئاً في تلك اللحظات الأخيرة إلا أن يزور بلاده وينام فيها ليلة، فمن قصيدته الطويلة:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطعِ الركبُّ عرضَه
وليت الغضا ماشى الرّكاب لياليا
و قال امرؤ القيس بن عمرو الكنْدي، وقد ذكر عدداً من المواقع:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقطِ اللوى بين الدخولِ فحوملِ
فتوضح فالمقراةِ لم يعفُ رسمُها
لما نسجتْها من جنوبٍ وشمألِ
وأحب زهير بن أبي سلمى مواطن محبوبته، ومواطنها (حومانة الدرّاج، والمتثلم، والرقمتان) حيث قال:
أَمِنْ أمّ أوفى دمْنَةٌ لمْ تكلَّم
بحومانَةِ الدَّرَّاجِ فالمتثلِّم
ودارٌ لها بالرَّقْمتين كأنّها
مراجِيعُ وشْمٍ في نواشرِ مِعصم
وقال عنترةُ بن شداد العبسي في معلقته وهو يذكر الجواء حيث دار عبلة، (الجوى، وعيون الجوى لا زالت بنفس الاسم بمنطقة القصيم):
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي
وقد ذكر زهير بن أبي سلمى في معلقته عشرات الأماكن.. (العلياء)،
(جرثم) (القنان) و(حزن القنان) حيث قال:
تبصّر خليلي هل ترى من ظعائنٍ
تحمَّلن بالعلياء من فوق جرثم
جعلن القنان عن يمينٍ وحزنه
وكم بالقنان من محلٍ ومحرمِ
وفيما يلي مقدمة معلقة عبيد بن الأبرص المضري، وكلّ ما قيل في مقدمتها مواقع وأماكن ووهاد وجبال وأودية، له معها ذكرى، لذلك عدّدها:
أقفر من أهله ملحوبُ
فالقطَّبِيَّاتُ فالذّنُوبُ
فراكِسٌ فثُعَيْلِبَاتٌ
فذَاتُ فرْقِيْنِ فالقَلِيبُ
فعَرْدَةٌ فَقَفَا حِبِرٍّ
لَيْسَ بها منُهُمْ عَرِيبُ
ويذكر كثير من الشعراء جبال تهامة وأنـها في القلب:
نزلوا جبال تهامة فلأجلهم
يهوى الفؤاد تهامة وجبالها
يا صاحبي قفا عليّ بقدر
ما أسقى بواكف عبرتي أطلالها
وها هو طرفة بن العبد البكري يذكر مكان محبوبته ويسمى (برقة ثهمد):
لَخولة أطلالٌ ببرْقة ثهْمد
تلوحُ كباقي الوَشْمِ في ظاهر اليد
وقوفاً بها صَحْبِي عليّ مطيَّهُمْ
يقولون لا تهلكْ أسى وتجلَّدِ
والنابغة الذبياني يخاطب دار محبوبته حيث تسكن العلياء والسَّند:
يا دار ميَّة بالعلياء فالسند
أقوت طال عليها سالف الأمد
وقال لبيد بن ربيعة:
عفتِ الديارُ محلها فمقامها
بمنىً تأبد غولها فرجامُها
فمدافعُ الريان عُرِّي رسْمُها
خلقاً كما ضمنَ الوحيّ سلامُها
وذكر الشاعر الأحوص بعض المواقع في الوطن، منها الشُبَيْكَة وأُحُدٍ، وسَنَام، ذات عِرْق، وذات فلج:
أَأَنْ نادى هديلاً، ذات فلْجٍ
مع الإشراقِ، في فننٍ، حمامُ
ظَلِلْتَ كأنَّ دمعكَ دُرُّ سِلْكٍ
هوى نَسَقاً وأسلمه النظامُ
تموتُ تشوقاً طَرَباً وتحيا
وأنت جوٍ بدائكَ مُسْتَهامُ
أحلُّ النَّعْفَ من أُحُدٍ، وأدْنى
مساكنها الشُّبَيْكَةُ أو سنامُ
ألا يا نخلةٌ من ذاتِ عرقٍ
عليك ورحمةُ الله السلامُ
إن ذكرى اليوم الوطني يغرس في النفس حبّ المكان، ويولد فيه الاعتزاز به والوقوف للدفاع عنه والتضحية له بكلّ غالٍ ونفيس، كما ينشر في أهله الوعي حول ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وذلك بالوقوف خلف القيادة وبالمحبة والسلام والتآخي فيما بينهم، وتتحول المواطنة بذلك إلى فعل وسلوك وأخلاق، كما تعمل على اكتساب المعارف والقدرات والقيم والاتجاهات لدى الطلاب والطالبات، بل وكلّ مواطن ومواطنة في أيّ موقع من أرجاء الوطن،إضافةً إلى إيجاد الروابط المتينة بين المبادئ الأخلاقية والقيم الوطنية ومهارات الحياة المعاصرة بكلّ مكوناتها.
إن اليوم الوطني يحقق التماسك والاندماج والتواصل وقوة الترابط بين أفراد الوطن، ليشكل ذلك نسيجاً واحداً مما يعطي الوطن الهوية التي تتميز بالقوة والمهابة، كما إن ذكرى اليوم الوطني بكلّ عناصره ومؤسساته ترسخ مفهوم المواطنة وتذكر المواطن ما عليه من واجبات وحقوق تجاه الوطن، وكلها تهدف إلى تعزيز الفرد بالانتماء إلى مجتمعه، ووطنه، وقيمه ونظامه، وبيئته الثقافية، وتركز على القيم العليا مثل الأمانة والصدق، والإيثار، وتطبيق الخلق الرفيع في التعامل واحترام الآخرين بما في ذلك حقوق الوالدين واحترام آراء الآخرين، وأداء الواجبات، والتمسك بحقوق والإيمان بوحدة الوطن، المملكة العربية السعودية، ويحمي إنجازات ومكتسبات الوطن والمحافظة على استقراره.
إن اليوم الوطني نقطة انطلاق متجددة لتأكيد حبّ الوطن والذي يكون بالعمل والبناء والتعمير ونشر الوعي والاعتزاز بهذا الكيان الشامخ.