عبدالوهاب الفايز
إذا أردت الحديث عن الوطن فسوف تتجمع عليك الأحلام والتطلعات والأفكار، فالوطن شيء كبير لا تحيط بكل شؤونه سطور ومساحات محدودة!
في مقال الأسبوع الماضي قلنا إن واجبنا تجاه الأجيال الحالية والقادمة، وحتى لا تكون (الفوضى أسلوب حياة)، يتطلب استثمار مفاهيم وممارسات (التربية الوطنية) التي تؤسس للسلام والاستقرار الاجتماعيين، على أن يكون هذا مقدما على تكوين الثروة، ولنا في التاريخ سابقة. الجيل الأول من التجار الذين بنوا الكيانات الكبرى كان همهم التربية الدينية والأخلاقية للأبناء والبنات قبل تعليم مهارات التجارة والكسب. وهكذا كانت الدولة في بدايات تأسيسها، الملك عبدالعزيز رحمه الله وضع الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي في الأساسيات لإدراكه أهميتها لمشروع الوحدة الوطنية. جميعنا يتمنى البناء على هذا الموروث للدولة وتكريسه عبر (برنامج وطني للتربية الوطنية) يضاف إلى برامج الرؤية.
لذا، في ذكرى اليوم الوطني نجدها فرصة لتجديد الحديث عن هذه الأمور الحيوية التي تمس حاضرنا ومستقبلنا، ولها أثرها المباشر على الاستقرار الاجتماعي و(الوحدة الوطنية). إننا نتطلع إلى برنامج التربية الوطنية لكي يأخذنا إلى الأمور المستدامة التي تؤسس وتنتج (المواطن الصالح) الذي يتفاعل بإيجابية ومسؤولية مع ذاته ومع مجتمعه ويقدم السلوك الحسن في كل تفاعلاته، في الطريق، في النقل العام وفي عند المساجد، وفي صالات الأفراح وفي مدرجات الملاعب، وفي كل الأماكن العامة. وتحت مظلة البرنامج قلنا نحتاج عاجلا بناء مشروع (القدوة الحسنة) لكي نتعلم بالممارسة والسلوك الفعلي الأمور التي يفرضها الدين والأخلاق والأعراف والتقاليد في تفاعلاتنا الاجتماعية.
وجود مثل هذا البرنامج سوف يحقق لنا مكاسب سريعة في جانب حيوي لا يحتمل التأجيل. ونقصد هنا حاجتنا إلى المحافظة على بقاء وحيوية وتفاعل كبار السن من النبلاء الوجهاء الذين ما زال حضورهم له أهميته الخاصة في حياتنا اليوم، فهم جسورنا ومرشدنا إلى تاريخنا، وذكرياتنا، وتحدياتنا، وأحلامنا. هؤلاء أصبحت تزعجهم المناظر والمظاهر المؤذية للذوق والمنافية للآداب العامة مثل التزاحم وعدم الانضباط في مناسبات الزواجات والأفراح. الفوضى وطول الانتظار يضطر هؤلاء إلى تجاوز النظام امام أعين الناس. وهذا يؤلمهم لأنهم يرون أنفسهم كـ(قدوة)!
وهذه الصورة الذهنية الإيجابية عن الذات تكامل بناؤها عند أغلبهم بعد أعوام من التعب والمعاناة ومجالدة الذات لتأسيس مقومات الحياة الكريمة، لذا هي (رأسمالهم) الحقيقي الذي يحرصون عليه. ولكن الوضع الحالي الفوضوي لا يساعد على بقاء هذه الصورة الإيجابية، وهنا الخوف. إذا بقي الحال على هذا المنوال، وبقيت الفوضى سيدة الموقف، هؤلاء دون شك سوف يبتعدون عن حضور المناسبات العامة.. وفي هذا خسارة اجتماعية! نحن نفرح برؤية الشيوخ والكبار والنبلاء في المناسبات لأن هذا يذكرنا بـ(قيم الوفاء والتراحم والتواد)، وهذا الذي نحتاجه، لبقاء واستمرار القيم الإنسانية الراقية التي تجمع الناس وتوحد قلوبهم.
حين كانت الصحافة تفتح الصفحات لتغطية المناسبات الاجتماعية سواء في الأفراح أو الأتراح، كنا نحرص على وضع صور الكبار من الأمراء والوجهاء والتجار الذين كانوا لا يتأخرون عن أداء الواجبات حيث يأتون وقد أنهكتهم السنون راجلين أو محمولين على الكراسي، كنا نضع صورهم في صدر الصفحات وفي مساحات واسعة والهدف: تقديم صور الوفاء والتراحم لمجتمعنا.
في لقاء لوزير التعليم يوسف البنيان استضافه الشيخ عبدالله العثيم في منزله قبل أسبوعين وقف الوزير عند أمرين مهمين تضعهما وزارة التعليم في أولوياتها هما: (بناء المهارات)، و(بناء القيم) للطلاب. هذه توجهات ضرورية مفرحة نحتاجها بعد المظاهر التي أصبحنا نراها لدى الأجيال الجديدة بالذات تراجع قيم احترام الكبار وعدم تقدير القيم الاجتماعية الأساسية التي قام عليها مجتمعنا في العقود الطويلة الماضية. الأجيال الجديدة مع الأسف بدأت تبتعد عن منظومة القيم الحاكمة للعلاقات الأسرية والاجتماعية. نحن نخشى من توسع الاتجاهات في القيم الاجتماعية بين الأجيال، فهذا التوسع قد يؤدي إلى صراع القيم بين الأجيال، وهذا ليس في صالح السلام الاجتماعي والأمن الوطني.
في الفضاء العام.. الأمور المشاهدة الآن عدم احترام الصغير للكبير، وعدم تقديم مظاهر الاحترام والتقدير لكبار السن بالذات في الأماكن العامة. وهذه أمور مزعجة مؤلمة، وتحتاج التدخل الاستراتيجي النوعي الذي يقوده التعليم عبر المناهج الأساسية، وأيضا يحتاج تدخل منشآت ومنظمات القطاع غير الربحي لكي تسهم في بناء البرامج العملية التطبيقية التي تستهدف بناء منظومة القيم.
أيضا، حين ترى النزعة إلى السرعة والعنف في القيادة في الشوارع، هنا نتذكر أهمية (قيمة الصبر)، فهذه من القيم التي بدأنا نفقدها في الفضاء العام. والصبر قيمة عظيمه تحتاج التربية الوطنية المتخصصة التي تزرعها في السلوك. والصبر ورد في القرآن الكريم في أكثر من مائة موضع، ويأتي مربوطا بالأركان وبالأمور العظيمة. كذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على هذه القيمة العظيمة منذ بداية الرسالة. هذه القيمة العظيمة هي التي يجب أن تكون أسلوب حياة. أكاد أجزم أن غياب التربية المرورية على هذه القيمة العظيمة هي المتسبب الأكبر في حوادث الطرق. تعلم هذه القيمة يؤسس للإدارة السليمة للوقت وللضغوط في الحياة وفي بيئة العمل.
كذلك مع توسع التفاعل الاجتماعي في الفضاء العام، في الميادين والأسواق والمقاهي، تصبح قيمة التسامح والحوار الإيجابي العقلاني ضرورية، ومعها قيم أخرى يحتاج الناس إلى اكتسابها وتعزيزها وتأسيسها وجدانيا وسلوكيا حتى تكون حاضرة في السلوك العام. نحتاج إلى منظومة قيم تجعل الالتزام والاحترام المتبادل بين الناس للنظام وللحقوق والواجبات (أسلوب حياة) يمارس بتلقائية نابعة من السلوك الإيجابي، ولن يتحقق هذا الهدف الحضاري الإنساني إلا عبر تبني برنامج متكامل يأخذنا إلى دمج القيم الدينية والأخلاقية والمبادئ التربوية في حياتنا اليومية وفي جميع علاقاتنا الاجتماعية.
كيف نحقق هذا؟ هذا دور مؤسسات الفكر والتشريع، ويبقى دورنا التفكير بصوت عال لأجل توليد وعصف الأفكار، وبث الهموم التي تنفع الناس.