فضة حامد العنزي
كلما يزيد حسدك تنقص، وكلما أزيد نجاحًا تصغر، أبتسم أنا وتغتم أنت، أركض وتلهث، أتكلم وتفحم، أضحك وتبكي، أنام وتسهر، أسعى وتتشتّت، أبذل وتبخل، أعطي وتمسك، أصعد وتنزل، أَسْلَمُ وتمرض! أعيش وتكاد تختنق! فماذا ترتجي من حسد يتعبك؟! دعني.. وعِشْ حياتك لا حياتي وأنت لي حاسد!
منشأ الحسد وأصله خفايا لا يعلمها إلا الله وحده، وحسبما تعلّمْنا في ديننا ومن المعروف لدينا - حسبَ فهمنا - أن الحسد في الشخص سببه إما الكبر وهذا حاصل في بعض الطباع وله علاج، وإما الغيرة وتلك غريزة ولها حد طيب، وإما الكره وذلك أمر نفسي وله دواء أو إجابات أو استفهامات بداخلك، وإما الحقد وعلاجه تطييب الخواطر، وإما العداوة ولها حلول، وإما قلة حظ الحاسد والحظوظُ أقدارٌ وأرزاقٌ مكتوبةٌ؛ فعليه دعاء الله وحب الخير لغيره والسعي الطيب، وإما عُقَد في شخصيته تحتاج لجلسات ومداواة، وإما لأنه يستكثر نِعَم الله على بعض خلقه، وذلك علاجه التوبة، وإما لأسباب أخرى ولها أدوية، وإما حب الحاسد نفسَه ولا يحب لغيره ما يحبه لنفسه ممزوجًا ذلك بسوء الأخلاق وقبح الشعور ودناءة النفس وعلاجه الاتباع لحديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.. فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». متفق عليه.
أترضى لنفسك أيها الحاسد أن يحسدك أحد على نعم من الله تعيشها؟ أترضى أن ينهشك الآخرون وتكون الشماتة بك فاكهتهم؟ أترضى أن تكون محطَّ أنظار لا تريد لك الخير وتقذف شررًا حولك وفيك؟! أترضى أن توضع في طريقك الأسلاك والعوائق الشائكة؟ أترضى أن تتأجج نار الحسد والغيرة والكره والحقد في قلوب حُسّادك وأعدائك أوحتى بعض أصحابك أو بعض أقاربك؟! أترضى بهم وهم يلاحقونك يريدونك أن تفشل وفشلك هذا يخمدهم مؤقتًا..؟! أترضى أن يدعو عليك بالشر والضرر والإخفاق والزلل والخطأ والانحراف حتى عن الدين؟! نعم قد يصل الأمر بهم لذلك وأدهى.. ودعواتهم ضدّك تنمّ عن حسد وغيرة وكره وحقد وو.. كل ذلك ظلمًا وعدوانًا! بينما أنت أيها المحسود غارقٌ في نومك أو سائرٌ في حياتك وفي أكثر أحوالك طيّبٌ وقد أدّيت فروضك وصلواتك ومُرْضٍ لوالديك رفيقٌ بزوجك إن كان لك زوج، رحيمٌ بإحسانك مع الجميع خَلوقٌ بتعاملك، سليمٌ قلبُك لا تعلم عنهم وعن أرق ليلهم وكمد قلبهم وغيظ عيونهم أو قد تكون تعلم جيدًا لكنك لا تبالي بخبثهم ومكرهم ولا حتى بدسّ دسائسهم ولا بقذارة أنيابهم؛ لأنك متوكلٌ على الله سليم الصدر متعلمٌ عابدٌ مستبصرٌ مستعينٌ به وترجو منه كل خير، أو أنك تتألم وتعفو وتسامح من هدأ؛ أو أنك تتألم وتدعو وتناطح من بدأ؛ أو تعفو وتسامح كما عفا وفعل الرسول- صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة وهم الطلقاء؛ فهو جبان معركة وخاسر، وأنت شجاع حرب والمنتصر.
كل هذا يفعله الحُسّاد والأعداء والحاقدون وأكثر وأكثر.. فلعلك أيها الحاسد تشعر بذلك وتقدر شعور الذي تحسده وعن موقفه منك.. ذلك الذي يعيش ويطمح لرضا الله.. وصورته حسنة وأخلاقه عطرة وسيرته جميلة.. هل ضرَّك؟ هل أخذ منك شيئًا؟ هل ظلمك؟ هل أخطأ في حقك؟ هل وهل.. ماذا تريد منه إذن؟! وكأنك نار تتلظى بأكملك حياله! أطفئ نار حسدك بماء الخوف من الله وتقواه؛ وتب لله وأطفئها بالصدقة؛ وبلِّلْ قلبك بالقرآن وعطِّرْ لسانك بذكر الله وخشيته؛ وصاحبِ الأخيارَ وتواضعْ وتذكَّرْ أنك خُلقتَ من ماء مهين لا تصلح لتهين وتتكبّر بل لتعين وتتدبّر؛ وأيضًا كن محسنًا وصحِّح فكرك بحسن تعامل الشخص وما تراه منه معك بعيدًا عن حسدك وغيرتك وكرهك وحقدك عليه ولا تُعادِه بلا مسوِّغٍ وسببٍ أو بلا قلبٍ ورحمة.
ولْتعلمْ أيها الحاسد أن الله هو الذي خلق الشخص الذي تحسده؛ وهو الذي أسعده؛ وهو الذي زوَّجه أو أعفَّه عن الحرام؛ وهو الذي عافاه؛ وهو الذي رزقه؛ وهو الذي وفّقه وعلّمه؛ وهو الذي نمّاه وزاده وبارك فيه؛ وهو الذي مدَّ في عمره، وهو وهو.. نِعَمٌ كثيرة تغشاه؛ فلا تعترض على قضاء الله وقدره.. أجبني.. لِمَ أنت منزعج منه؟! لِمَ تدخل في مقارنات اتجاهه؟ لِمَ لا يعجبك نجاحه؟! لِمَ لا تودُّ استقامته؟ لِمَ تلاحقه؟! أمرك غريب وشعورك مهول! أنت لست على حق؛ وليس من العدل ولا من الرحمة فعلُك هذا.. فلا تفعل أفعالًا مصدرها حسدك وعداؤك؛ فتقع عليك العقوبة من الله في الدنيا وفي الآخرة، أفعالٌ توردك للزلل والخطأ أو تجرّك للّعن والمهالك أو تصيبك بالهم والحزن أو تتعبك، وفي حالات مستعصية يصل الأمر لبكائك.. تبكي غمًّا مقهورًا عندما ترى حياة غيرك مبتهجة ومنيرة، ويضيق صدرك وأنت تراهم يصعدون منصات التتويج ويحققون الإنجازات ويخدمون البشرية؛ وأنت ترى نفسك لا تستطيع؛ لخذلانك لها أو تلك قدراتك أو أنك لا تريدهم أعلى منك لغرورك أو لحسدك.. لا تريدهم ينافسونك حتى منافسة طيبة فأنت تخشى فوزهم.. تتآكل وتحترق وتندب حظك وقد تخطط لفشل الناجح أو تقلّل من قدره ومن عظيم نجاحه؛ لترى نفسك الأفضل؛ ولتُري الآخرين أيضًا ذلك لا تريد غيرك ولا غير أولادك في ساحة النجاح يسيرون؛ والساحة تسع الكثير الكثير!
ولْتعلمْ أيها الحاسد: أنْ ليس كل الناس مثلك يحسدون ويعادون ويحقدون، فهناك من يزيد بزيادة غيره ويعلو بعلوّ أخيه ويعتزّ بعزّ رفيقه أو قريبه أو أيّ أحد.. يعدُّ نفسه هو الناجح لنجاح من يعمل فضائل الأعمال ويحقق النجاحات ويسعد له؛ ومع ذلك يدعو بالخير لكل الناس ويرجو من الله لنفسه الخير أيضًا؛ بينما أنت منغمسٌ همُّك الناس! وما فعل الناس؟! وما أكلوا؟! وما شربوا؟! وبماذا ابتُلوا؟! وأين ذهبوا؟! ومن أين جاؤوا؟! وما صنعوا؟! وما حققوا؟! ومتى ناموا؟! ومتى استيقظوا؟! ومتى سافروا؟! ومتى عادوا؟! وو.. الكثير الكثير من الحسد والفضول؛ حالك حال المراقب الذي عيشته وحياته عيشة غيره وحياته، تُسَرُّ بحزنهم وتحزن لفرحهم وتعلو لفشلهم وتصغر لنجاحهم.. بالرغم من أن الحياة واسعة الرؤى ورحمات الله تتوالى، ونعمُه كثيرة لا تُحصى، وأنت مع ذلك كله نظرُك ضيّقٌ جائعٌ تنظر لهؤلاء وهؤلاء وهؤلاء؛ لا يهنأ لك عيش ولا يُستساغ لك شراب، وغيرك من الناس سعيد ومرتاح خاصة من تضعهم في بالك ورأسك..! لا تترك الناس بحالهم ولا تنشغل بحياتك.. أنت وأمثالك تتغذّون على مصائب الآخرين وترقصون فرحًا على أصوات البكاء وتحلّقون سعدًا - وسعدكم هذا وبالٌ - عندما ترون غيركم قد وقع في مأزق أو أصيب بمصيبة أو حلّت به كارثة، أو زلّت به القدم أو أصابه بكاء وحزن.. أنت وأمثالك تتصنّعون الودّ وتلبسون الأقنعة وتتلوّنون ولا تأمنون ولا راحة معكم.. وعندما تتألم أيها النقيّ يزيدونك ألمًا، ويكثرون همَّك وينوحون عنك يسمعونك سخطهم، وعندما تبصر يحجبون رؤيتك، وعندما تضحك من قلبك يعكّرون ضحكتك بسرد حكايا تؤلمك، وحكايا تقلقك، أو يدبّرون لك المكايد، وهم يسعون ليكونوا بعيدين خارج دائرة معرفتك بمشكلتك بسببهم، وهم مفتعلون المكيدة الحقيقية في المشكلة أو المشكلات التي حصلت لك، وقد تكون أنت مدركًا وتعرف ألاعيبهم أو غافلًا أحيانًا.. والأدهى والذي يدعو لشكرك الله على سلامتك، والكثير من الغرابة اتجاههم أن بعضا منهم يريدك أن تعرف أنه هو الذي وراء مشكلاتك! وفي كل أحوالهم غايتهم ليزعجوك وليقهروك وليتعبوك وليؤذوك وليملؤوك تشاؤمًا؛ حتى تسودّ الدنيا كلها بعينيك وتنزوي حزينًا ومصابًا؛ فيشعلوا هم نيران قبحهم فوق خيام راحتك في فصل الربيع، ويعبثوا بجمال دنياك إلى أن تصبح أنت مكسورًا وخيمتك خرابًا في حر الهجير بعدما كنت ملجأً آمنًا وسندًا يقوّيهم.. إذ فصلك الربيع وفيك ويأيك ويحبّك الخيّرون.. فإياك أن تسمح لهم دخولك عابثين.. هؤلاء لا تسلمهم مفاتيحك ولا تعطهم أدواتك ولا تملّكهم أمورك ولا تفتح لهم أوراقك كلها.. هؤلاء اطردهم بأخلاقك العالية ورحمتك؛ فهم يتأذّون بذلك، وأبعدهم برقيّك وإنسانيّتك فهم ينزعجون بهذا، وأوجعهم بتجاهلك أو سدِّد رميك بدعائك، أو خذ حقك عند تضررك منهم شرعًا ونظامًا، أو قل لهم إذا لزم الأمر: سأبقى إنسانًا نقيًّا تقيًّا نافعًا رحيمًا بإذن الله، لكنني لست غبيًّا كما تظنّون أو تعتقدون؛ فطريقي غير طرقاتكم، ومساراتي غير مساراتكم، وأهدافي غير أهدافكم، وقلبي لن يكون كما أنتم تريدون ونصيحتي لكم - لكي لا تختنقوا - افتحوا نوافذ قلوبكم لتتنفس هواءً صافيًا فقد أتعبها دخان الحسد والغيرة والكره والحقد؛ ولتبرأ قلوبكم من كل العلل بتوبة نصوحة.. نعم افتحوا نوافذ قلوبكم للنقاء.. للنقاء.. قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (88-89) سورة الشعراء.
وخلاصة القول: أيها المحسود والقارئ أولًا.. ليكن لديك يقينٌ تامٌّ في قلبك وفكرك ونفسك أن الله خيرٌ حافظًا وهو أرحم الراحمين، وهو خير الرازقين، وهو بيده ملكوت كل شيء.
ثانيًا.. أطب مطعمك ولا تترك الدعاء وكن قريبًا من الله وإن قصرت أو بعدت أحيانًا، فعد لله وتب وعد وتب كل مرة، ولا تيأس من رحمة الله ومغفرته.
ثالثًا.. لتسأل الله السلامة لك وأن يكتب أجرك وأن يجزيك خيرًا وأن يرفع قدرك ومنزلتك لديه سبحانه وتعالى في الدارين.
رابعًا.. لتسأل الله أن يهدي الله حاسدك وعدوك للخير والبصيرة.
خامسًا.. مع ذلك كله وبكل أحوالك فلتستعذ بالله من شر حاسد إذا حسد، ومن شر غيور إذا عمي، ومن شر كاره إذا طغى، ومن شر حاقد إذا انتقم بلا حق. والسلام.