العقيد م. محمد بن فراج الشهري
بعد صدور قرار التقسيم ورفض العرب له، وإحساس بعض الدول التي صوتت لصالحه بخطأ، موقفها «ظهرت محاولات جادة لعرض القضية على محكمة العدل الدولية، ولكنها تحطمت بوقوف الولايات المتحدة بكل ثبات ضد عرض أية مسألة تتعلق بفلسطين على تلك المحكمة، وهددت باستخدام الفيتو في مجلس الأمن في حالة تقديم طلب للمجلس بعرض قضية التقسيم على المحكمة». وقد هدفت الولايات المتحدة من خلال تبنيها ودعمها لقرار التقسيم عام 1947 إلى إضفاء الشرعية الدولية الكاملة للدولة اليهودية على أرض فلسطين، وتثبيت الكيان الإسرائيلي في قلب المحيط العربي. وكان قرار التقسيم المدخل الشرعي في إطار القانون الدولي لقيام دولة إسرائيل وقبولها عضواً فاعلاً في الأمم المتحدة بمساعدة الولايات المتحدة، نفسها كما أن الدعم الأمريكي هدف إلى إرضاء اللوبي اليهودي والجماعات الصهيونية المسيحية خاصة البروتستانتية في دعمها لقيام دولة إسرائيل «لذلك استند المجلس القومي اليهودي قرار الأمم المتحدة رقم 181 في إعلانه عن قيام دولة إسرائيل عام 1948م، كما أن الأمم المتحدة استندت إلى القرار نفسه عندما قبلت إسرائيل عضوا فيها عام 1949م».
قيام إسرائيل وحرب عام 1948
بالرغم من الجهد الكبير الذي بذلته أمريكا لتمرير قرار التقسيم، إلا أنها بعد فترة تراجعت عن هذا المشروع بسبب صعوبة تنفيذه، واقترحت وضع فلسطين تحت الوصاية، ولكن هذا الاقتراح لم يقبله الزعماء الصهاينة الذين كانوا يعدون العدة لإعلان قيام دولة إسرائيل بمجرد انتهاء الانتداب البريطاني عليها في 15 آيار، مايو 1948م. وعندما أعلن عن قيام دولة إسرائيل «كان ترومان أول رئيس في العالم يسارع في الاعتراف بها (بعد عشر دقائق من إعلانها)، على الرغم من نصيحة مستشاريه بالتريث في الأمر». كما قام بتصرف يخالف كل المبادئ الدبلوماسية المعروفة، عندما اعترف بدولة إسرائيل قبل أن تطلبه رسمياً وقبل انتهاء الانتداب البريطاني بعشر ساعات. ولم يقف تأييد ترومان للحركة الصهيونية عند هذا الحد، بل إنه استطاع أن يحل أصعب مشكلة مرت بها الدولة الوليدة. فعندما دخلت سبعة جيوش عربية أرض فلسطين في 15 مايو 1948م، واستطاعت تحرير كثير من الأراضي الفلسطينية، وضيقت الخناق على الجيش الإسرائيلي، بحيث أصبح في وضع حرج.
وهنا أحس ترومان بأن القتال الدائر في فلسطين يسير لصالح الجيوش العربية، وأصبح قلقا على مصير الدولة التي عمل على إنشائها على أرض العرب، فمارس ضغوطاً مباشرة على المندوبين في مجلس الأمن للحصول على قرار بوقف القتال بأي طريقة يمكن التوصل إليها.
اتفاقية الهدنة عام 1948
بعد مناقشات ومشاورات وملاحقات وضغوط من الرئيس ترومان شخصياً، وبناءً على اقتراح المندوب البريطاني، وفى 29 آيار، مايو 1948م أقر مجلس الأمن الدولي الموافقة على وقف القتال في فلسطين بموجب هدنة يتم الاتفاق عليها عن طريق وسيط دولي، وقد تم تعيين الكونت برنادوت وسيطاً دولياً، حيث استطاع التوصل إلى اتفاق للهدنة لمدة أربعة أسابيع. ونصت اتفاقية الهدنة الأولى على أن يحتفظ كل طرف بالمكان المتواجدة فيه قواته ولا يحق لأي طرف استغلال الهدنة والحصول على مكاسب عسكرية، سواء باحتلال الأراضي أو جلب الإمدادات. ولكن إسرائيل لم تلتزم بذلك، وعملت على جلب مزيد من المتطوعين والأسلحة من الخارج بمساعدة سرية من أمريكا وبريطانيا، في الوقت الذي فرض حظر على تصدير الأسلحة للدول العربية». «فأصبح لدى إسرائيل بعد الهدنة الأولى 90 ألف مقاتل كقوات هجومية مسلحة بالدبابات والمدفعية والطيران. كما أن إسرائيل استطاعت في ظل هذه الهدنة تنظيم جيشها والاستيلاء على مزيد من الأراضي العربية، بحيث أصبح ميزان القوى لصالحها بفارق كبير».
وهكذا لعب ترومان دوراً مهماً في حماية إسرائيل عند ولادتها، من خلال الهدنة التي فرضها على الدول العربية. ولهذا يرى البعض أن موافقة الدول العربية على الهدنة كانت خطوة متسرعة وغير محسوبة، وربما جاءت رضوخا لضغوط خارجية، لأن العصابات الصهيونية كانت في وضع صعب، وقد عبر مناحيم بيغن في مذكراته عن استغرابه وتعجبه لقبول الدول العربية للهدنة بالرغم من أن الموقف كان في صالحها، كما أن موشى ديان الذي كان من كبار الهاغاناة الإسرائيلي في ذلك الوقت، قال: «كانت الهدنة بالنسبة لنا كأنها قطرة ندى قادمة من السماء».