د. جمال الراوي
لا أدري إنْ بحث أحدهم -من قبل- عن ظاهرة الخلاف بين من تربطهم صلة رحمٍ واحدة، والتي ذكرها القرآن الكريم في قصتين، قصة الخلاف بين ابني آدم والقصة الأخرى خلاف إخوة يوسف معه، رغم صلة القرابة الشديدة التي تربطهم، ورغم أنهم جميعاً جاؤوا من صُلبٍ واحدٍ، وسكنوا في بيتٍ واحد، وفي ذلك دلالة كبيرة على أنّ الصلات الدائمة والمعايشة المشتركة في المسكن والمأكل تُظهر عداواتٍ خفيّة وأحقادا، وتفجّر الضغينة والغيرة؛ فالنّفس الإنسانية لا تعتدي على الأخرى ما لم يكن هناك تخاصمٌ وتنافسٌ على المصالح وعلى المنافع والمكاسب، تزداد أكثر عندما تصبح النّفس قريبة من الأخرى؛ فتظهر العيوب والنقائص والرذائل؛ فتجد -للأسف الشديد- أكثر الخلافات التي تسجل - في المحاكم- هي بين أفراد الأسرة والعائلة الواحدة سواءٌ كانوا أشقاء أو أقارب!!
أغلبنا نعرف خلافاتٍ أُسَريَّة امتدَّت لسنواتٍ وربما عقود، مع قطيعة كاملة، وعدم وجود أيِّ تواصل فيما بين أفراد العائلة الواحدة، تعود أسبابها إلى الاختلاط الشديد، وتداخل القضايا المشتركة وكثرة الزيارات، بينما نجد آخرين يحتفظون بروابط حميمة بسبب بعدهم عن أهلهم وأقاربهم، وعدم سماحهم لأهلهم التدخُّل في شؤونهم. وقد أورد الغزالي في الإحياء، عن عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- أنَّه كتب إلى عُمَّاله: «مُرُوا الأقارِبَ أنْ يتزاوروا ولا يتجاوروا»، وذلك لأنَّ المُجاورة تستدعي اختلاط الأولاد فيما بينهم؛ فتنشأ بينهم خلافاتٌ ينقلونها إلى أهليهم، مما يورث الضغائن، ويعبِّئ النُّفوس بالأحقاد؛ فتكون سبباً في إشعال الفتن بين النساء وربما بين الرجال والأبناء!! وقد كتب الغزالي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى-مُعلِّقاً على كلام عمر: «لأنَّ التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم».
وقد قال أحد العلماء: «تباعدوا في الديار، تقاربوا في المودة». وقد ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قوله في الحديث الشريف: «زُرْ غِبّاً تَزْدَدْ حُبّاً»؛ أي: زر أهلك وأصدقاءَك وأقاربك على فتراتٍ متباعدة، حتى تزداد المحبَّة فيما بينكم؛ لأنَّ كَثرة الوصل تُفضي إلى المَلل، وتُذهِب الشوق والحنين، بينما الاقتصاد في الزيارة، وعدم التردُّد على الآخرين بكثرة، يؤدِّي إلى بقاء المودة والمحبة؛ لأنَّ الإنسان مجبولٌ على الملل والضجر، ولا يرغب في تكرُّر المَشاهد والوجوه أمامه.
ولعل أحد الأسباب -وربما أهمّها- تدخّل الأهل والأقارب في حياة أبنائهم وأقاربهم، لا يعترفون بخصوصيّة كلّ بيتٍ، تراهم ينتقدون نمط حياتهم، وأسلوب معيشتهم، ونوع أكلهم وشربهم، وشكل ملبسهم؛ فهم لا يعتدون على تلك البيوت فحسب؛ وإنّما يتسوّرون جدرانها، ويتجاوزون حدودها؛ يريدون التجسُّس عليها، والاطلاع على ما في داخلها!! ولو فتَّشت عن أيِّ خلافٍ في عائلة، ستجد سببه الاعتداء على تلك البيوت، وعدم احترامهم سيادتها!! هؤلاء مدفوعون برغبةٍ شديدة في أنْ يتبع أصحاب البيت أمْزجتهم وآراءَهم وأفكارهم، بينما هي -في الحقيقة- دوافع حسدٍ وغيرة!! تجدهم يوزعون النصائح والإرشادات لأصحاب البيت، يُصرُّون على موقفهم، ويقولون: إنَّها إرشادات ومواعظ، حتى يعيش أهل البيت في السعادة المزعومة التي يدّعونها، لا يعترفون بأنَّ أصحاب البيت أدرى بأحوالهم وأحوال أولادهم، وأعرف منهم في الطريقة المناسبة للعيش، لا يعرفون أنَّ كل بيتٍ يريد أنْ يضع عنواناً خاصّاً به، مُميزاً عن الآخرين، ولا يريد أنْ يعتدي عليه أحد!!
في حقيقة الأمر؛ قد يوجد في كلِّ عائلةٍ من لا يحترم خصوصية أفراد أسرته وعائلته وأقاربه، وقد يكون مِمنْ يحمل في صدره قلباً أسودَ، وحقداً طاغياً يأكل منه؛ فيثير المشاكل، ويحاول أنْ يزرع الفتنة بين أفرادها، يريد - من وراء ذلك- أنْ يعوِّض عن فشله في تصدير خيبته وقلَّة تدبيره، على صورة نعراتٍ وتهديدات؛ فتبقى العائلة تعاني منه ومن أذاه، تحاول قدر الإمكان امتصاص ثوراته وغضبه!! وهي مأساة تعاني منها مُعظم الأُسر، التي لا سبيل لاستئصالها والقضاء عليها!!
وقد ينفد الصبر -في لحظةٍ من اللحظات- عند هذه الأُسر؛ فتتحوَّل الروابط والعلاقات إلى مصيبة دامية تتوارثها الأجيال، وتنقلب إلى أحقادٍ وثاراتٍ تستمر سنين وعقوداً عديدة. وبسبب هذه الظاهرة قلَّت -في هذا العصر كثيراً البيوت الآمنة، فتحوَّلت القرابة إلى عداوةٍ يتوارثها الأبناء والأحفاد؛ فتصبح سبباً في قطع أواصر الرحم؛ فتختفي المودَّة بين أفراد الأُسرة الواحدة، وتضيع بينهم أيَّ صلاتٍ، ولا يبقى في النفوس سوى الأحقاد والضغائن، التي تختفي منها كلُّ معاني المحبة والتآلف، ويعود ذلك إلى كثرة الاختلاط فيما بينهم، وتشابك الأحوال والقضايا والخلاف على الإرث، ومحاولة بعض منهم التدخُّل في حياة الأقارب، وإبداء النصح المقرون بالنقد والتقريع، مع المراقبة اللصيقة لِما يفعلونه بسبب الجوار في السكن.
كثيراً؛ ما نسمع عن عوائل تطلب من أبنائها المتزوِّجين الابتعاد في السكن، واختيار أماكن بعيدة عنهم، لا يريدون منهم العيش بينهم أو بجوارهم، دفعاً لحدوث مشاكل أسريَّة، ورغبةً منهم في عدم الاطِّلاع على أسرار بيوت أولادهم، وترك الحريَّة لهم في اختيار طريقة الحياة التي تُناسِبهم.
وقد لوحظ بأنّ أغلب الخلافات الأسريّة سببها التعرّض للمرأة صاحبة البيت، لا يعترف المعتدون بأن البيت مملكة المرأة، من واجبها أنْ تصونه، وتُبعد عنه المتطفِّلين، لا تسمح أنْ يتدخَّل في شؤونه أحد... وللأسف؛ فإنّ تلك المرأة حتى وإنْ جلست واستقرَّت في بيتها، وأغلقت عليها الأبواب؛ فقد تأتيها المصاعب من الأهل والأقارب والجيران، وقد فازت المرأة التي تتخذ لنفسها وسائل دفاعيَّة لحماية مملكتها، واختارت مكاناً بعيداً يقيها كثيراً من الفِتن الأُسريَّة.
بالمقابل؛ يجب الاعتراف أنّ ظروف العيش الصعبة والفقر، قد تدفع الأولاد للعيش مع أهليهم؛ فتجد عدَّة أولاد متزوِّجين يعيشون سويَّةً في بيتٍ واحد، كما أنَّ حالة الوالدين الصحيَّة قد تجبر بعض الأولاد على السكن مع والديهم بقصد برِّهم، والاهتمام والعناية بهم، وقد لا تكون زوجة الابن قادرة على القيام بهذه المهمة؛ فيدفعها ذلك إلى التذمُّر والضجر والملل؛ فينشأ عن ذلك خلافاتٌ مُستديمة في الأسرة.
ومن المعروف أنّ بعض الوالدين يحتاجون إلى أنْ يسكن أبناؤهم المتزوجون معهم أو بجوارهم بسبب كِبر سنّهم، وحاجتهم إلى من يرعاهم ويقف معهم، وقليلٌ من الزّوجات اللواتي يرتضين القيام بهذه المُهمَّة الإنسانيَّة النبيلة، وهذا ما قد يدفع بعض الأبناء إلى هجران والديهم، والعيش منفصلين عنهم إرضاءً لزوجاتهم!! وهي -لا شكّ-معادلة صعبة وقاسية؛ فهجران الأهل والابتعاد عنهم يجلب الراحة والطمأنينة، ويُبقي شعلة الحنين لهم مشتعلة، لكنَّ البُعد عنهم قد يؤثِّر على القلب، ويجعله قاسياً، ولا يعود يتأثَّر بأحوال الأهل؛ فينصرف الابن إلى شؤونه وشؤون بيته وأولاده، وينسى ما قد يكابدُه والداه وأهله؛ لأنَّه بعيدٌ عنهم، قد لا يتذكَّرهم إلّا في بعض المناسبات!! والغريب أنَّنا نجد كثرة المُعزِّين عند موت أحد الأقارب، يتهافتون جميعهم إلى أماكن العزاء، بينما يغيبون -أثناء حياتهم- فتراتٍ طويلة، لا يتذكرونهم إلّا بعد موتهم!! قد نجد ابناً أو ابنة يغيبان عن والديهما أشهراً وربما سنواتٍ، لا يتذكرانهما إلّا عند حصول مكروه لهما، أو عند الوفاة!!