نجلاء العتيبي
إن التفاعل مع الآثار الحضارية يعكسُ العلاقة الوثيقة بين الإنسان وذاكرته الجماعية، ويُمثِّل تعبيرًا عن تقديره العميق للماضي الذي أرسى دعائم الحاضر، هذا التفاعل لا يقتصر على المشاعر أو الذكريات، بل يمتدُّ إلى أفعال ملموسة تهدف إلى الحفاظ على التراث، وإبراز قيمته أمام العالم؛ ولهذا السبب، نجد في كل دولة جهات مسؤولةً عن حماية التراث الثقافي والتاريخي، تقوم بدورها في اكتشاف المواقع الأثرية وصونها.
تُعد هيئة التراث إحدى الجهات الحكومية البارزة في هذا المجال، حيث تلعب دورًا محوريًّا في نشر الوعي بأهمية الآثار في تشكيل الهوية الوطنية، ومن الجهود الملحوظة التي قامت بها الهيئة تسليطُ الضوء على نتائج الدراسات حول «المستطيلات الحجرية» في منطقة حائل، هذا الحدث لم يقتصر على الكشف عن تفاصيل تاريخية فحسبُ، بل أعاد توجيه الأنظار نحو تاريخ الجزيرة العربية العريق.
تُعدّ المستطيلات الحجرية في حائل لغزًا أثريًّا فريدًا يُعيد رسم ملامح الحضارات القديمة التي سكنت الجزيرة، هذه الهياكل المعمارية، التي تعود لأكثر من سبعة آلاف عامٍ، تُمثِّل واحدة من أقدم المعالم الأثرية المكتشفة في المنطقة، ورغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى كُتَلا صخرية مُرتَّبة، إلا أن كلَّ حجر منها يحمل رمزية خاصة، تُعبِّر عن طقوس ومعتقدات المجتمع القديم؛ ما يجعلها شاهدة على حضارة مغمورة.
تطرح هذه المستطيلاتُ تساؤلاتٍ جوهريةً حول الهدف من بنائها، ويُرجَّح أن لها دلالاتٍ طقسية أو اجتماعية، فكل حجر يبدو وكأنه وُضع بدقة؛ ليخبرنا عن جزء من تلك القصة الغامضة، قد تكون هذه المعالم مواقعَ لتجمُّعات دينية أو رمزية تُعبِّر عن طقوس اجتماعية كانت تُمارَس في ذلك الوقت؛ ما يجعلها محطَّ اهتمام العلماء والباحثين؛ لفهم أسرارها.
إن الجهود التي بذلتها هيئة التراث لإعادة اكتشاف هذه المستطيلات جاءت في توقيت حاسم، حيث تفتح نافذة جديدة على تاريخ الجزيرة العربية، فخلال المؤتمر الصحفي، أُشير إلى أهمية هذه المعالم في إعادة بناء فهمنا لتاريخ الإنسان القديم في المنطقة، وإبراز قدراته على الابتكار والتكيف مع بيئته الطبيعية.
تلك المستطيلات، بصمْتها الصخري، تحكي عن قدرة الإنسان على تنظيم حياته بما يتجاوز حدود المكان والزمان؛ إنها شهادة على رغبة الإنسان في تخليد أفكاره ومعتقداته، مستخدمًا أبسط المواد المتاحة له -الحجارة- للتعبير عن عمق رؤيته للعالم، وبينما نستمرُّ في دراسة هذه المعالم، نجد أنفسنا أمام سؤالٍ أزليٍّ: ماذا يترك الإنسان وراءه؟
المستطيلات الحجرية ليست مجرد أثر تاريخي، بل هي مرآةٌ تعكس لنا تفاعل الإنسان مع بيئته، وكيف استخدم ما حوله ليبتكر وسائل تعبير تعيش عبر الزمن؛ إنها تذكِّرنا بأن التراث ليس مجرد حجارة أو بقايا مادية، بل هو تجسيد لهوية عميقة تخبرنا الكثير عن تطلُّعات الإنسان القديم، ورؤيته للعالم من حوله.
ضوء:
« تعد المستطيلات الحجرية المنتشرة على أطراف صحراء النفود في المملكة اكتشافًا مهمًّا في سجل آثار العصر الهولوسيني -هيئة التراث-».