رقية نبيل عبيد
لم أقرأ يومًا لأجاثا كريستي وهي تحكي عن نفسها، أعني أنني قرأت كل ما كتبت وكل ما وجدته تحت يدي من مؤلفاتها لكنني ما سمعتها يومًا وهي تتحدث، ربما باستثناء ملحوظات قصيرة عن مدى سخف الناس حين يسألونها من أين تستلهم أفكار جرائمها؟ تقول ما أسخفه من سؤال، لا أدري بالطبع إنها تأتيني فحسب!
وربما ما حملني على الامتعاض السابق لأوانه تجاه مذكراتها التي كتبتها في المشرق وتحديدًا سوريا والعراق بصحبة زوجها عالم الآثار ماكس هو أن أجاثا كريستي لم تكن يومًا منصفة في نظرتها نحو العرب عمومًا! وما ذُكروا يومًا في رواياتها إلا كأمة جاهلة لا تدرك يمينها من يسارها وتعتمد تمامًا على ما يجود به الغرب عليهم من علم وثقافة وتحضر! وأذكر مشهدًا في روايتها ذو البدلة البنية حين اختُطفت بطلتها وحُبست لدى رجل عربي، وكان نسوة عربيات يرتدين النقاب يتضاحكن من وراء الباب وقد ملأتهن هذه المرأة الغربية المحبوسة لديهن بالإثارة! بعد هذا المقطع الجائر علينا قررت أن أبقى بعيدة عن شخص أجاثا كريستي، المرأة الحقيقية التي هي من لحم ودم والتي سارت وعاشت وتنفست ذات يوم فوق الأرض وحملت بين جنبيها أفكارها وخيالاتها وقصصها التي لا تنتهي، ولأكتفي بعشقي للمحقق القصير ذو الشوارب المفتولة بإتقان والخلايا الرمادية والعينين الخضراوين المتقدتين ذكاء هركيول بوارو.
لكنني لما بدأت بقراءة المذكرات شعرت بإثارة بالغة، فهذا وصف ليس فقط لطرق السفر الممتعة القديمة والتسوق والناس والحمالين وموظفو الجوازات فحسب، بل هو طريقة لأرى عن قرب هذه السيدة الغنية بالأفكار وأعاين بعيني ابنتها وسكرتيرتها ومشيتها وأفكارها وحياتها التي كتبتها هي بنفسها.. بيدها مما يجعلك أقرب إليها بدرجة لا تصدق!
الممتع للغاية أن هذه أجاثا كريستي مما يعني أنك مقبل على مغامرة شائقة بأسلوبها الرائع العملي والمباشر والحافل بأدق التفاصيل مع لمسة الفكاهة التي عهدناها في شخصيتها هركيول بوارو، وتستطيع أن تدرك إذًا بغير جهد كيف أن كريستي كاتبة حقيقية، كانت كاتبة وولدت كاتبة، حتى قبل أن تدري بأنها كذلك، وكانت تجول بعربة الإسعاف بين مصابي الحرب العالمية، حتى حينها كانت أديبة فوق كل وصف.
وخلال قراءتي كنت متحفزة تمامًا لملاحظة أية عبارة قد تحمل شيئًا من العنصرية ضدنا، نحن معشر العرب المسلمين جميعًا، غير أن تحفزي واستعدادي ما كان لهما معنى فالمذكرات مليئة بشتى معاني الفوقية والاستعلاء والعنصرية، وكل ما هو فرنسي أو إنجليزي أو يحمل لمسة لهما لابد وأن يكون راق مفهوم وجميل والعكس بالضبط إن حصل لا سمح الله هوية عربية! وتحكي ذات مرة بكل بساطة كيف أن حملتهم الاستكشافية لمّا كان ينقصها عمال لجأت إلى السلطات الفرنسية فما كان من هذه الأخيرة إلا وألقت القبض على مائتي عامل ونقلوهم ليحفروا الصحراء ثم أعادوهم إلى المدينة! ويا للغرابة حين تجد كم كانوا كلهم سعداء وغير ممانعين ألبتة بهذا الإجراء القاهر التعسفي!
والمُلاحظ أن الكاتبة لم تختلط يومًا بأهل هذه البلاد بالطرق التي تخول لها الكتابة عنهم في الأصل، فهي إما كانت في كنف فنادق فاخرة بُنيت خصيصًا لأجل عيون الغرب ورفاهيته، وإما كانت بعيدة تمامًا عن العمران وسط صحاري قاحلة تنقب عن ذهب العرب وآثارهم برفقة زوجها عالم الآثار ماكس، وإذا كانت المغامرة تعني أن تخوض تجارب جديدة بالكلية وتكتشف عن قرب قوما آخرين يختلفون تمامًا عنك، فإن مما لا شك فيه أن أجاثا كريستي لم تكن يومًا المغامِرة التي خالتْ أنها تكون، فهي لم تفعل سوى محاولة النأي بنفسها عن كل ما اعتبرته غريبًا ومختلفًا عنها، وكانت القطارات والمسافات الطويلة التي تقطعها هي الدليل الوحيد على أية مغامرة قد تكون خاضتها أبدًا.
لكن يبقى لأجاثا كريستي الحب الذي كنّتْه لهذي البلاد المشرقية، وذكرياتها السعيدة هناك، والأهم بالطبع بالنسبة لقاعدة قرائها العريضة الممتدة من المشرق إلى المغرب هو الأجواء والأفكار التي استلهمتها أثناء ذلك لكتابة عدد من أجمل رواياتها، أشهرهم روايتها المذهلة جريمة في قطار الشرق السريع، والموت على ضفاف النيل، وجريمة في بغداد.