د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
هذا عنوان كتاب الأستاذ (طارق بن محمد بن ناصر العبودي) وأما عنوانه الفرعي الشارح فهو (شيء من حياته.. شيء من أعماله)، نشرته في طبعته الأولى(جداول للنشر والترجمة والتوزيع) في بيروت-لبنان عام 2024م.
وهذا العنوان اللطيف الموجه للقارئ فيه تواضع يصور تواضع كاتبه ومن كتب عنه، وأما الكتاب فليس مجرد حكاية بل هو ترجمة لرجل عظيم وعالم جليل وإنسان نبيل نذر حياته للغة قومه وثقافتهم، وزار بلدانًا كثيرة منتدبًا من حكومته الرشيدة حكومة المملكة العربية السعودية لتقصي أحوال المسلمين ومساعدتهم.
من يقرأ هذا العنوان قد يظن أنه جملة من الحكايات والذكريات، وما هو كذلك فقط؛ بل هو عمل بحثي رصين، فيه كثير من الاستقراء والاستقصاء والقراءات المكثفة الناقدة، قراءة لما كتبه العلامة الشيخ محمد بن ناصر العبودي رحمه الله، وما كتب عنه، قراءة لما طبع ولما هو مخطوط لَمّا يطبع، وهو إلى ذلك مكتنز بالذكريات.
يكتسب هذا الكتاب أهميته الكبرى من كون مؤلفه قريبًا كل القرب من العلامة الشيخ؛ فهو ابنه الذي رزق برّه فكان مع إخوته خير معين لوالدهم على الخير، ومن كون المؤلف مثقفًا عالي الثقافة؛ فهو إلى نشأته في بيت علم مميز مطلعًا على مكتبة غنية غزيرة المعارف، ومن كونه جامعًا إلى لغته العربية اللغة الإنجليزية التي أذكت مهارته بها درسته في كلية اللغات والترجمة في جامعة الملك سعود ثم عمله مترجمًا في الديوان الملكي.
كتب هذا الكتاب بفهارسه الفنية المفصلة في 359 صفحة، وضم جملة من الموضوعات المرتبة بعناية، واشتمل على بعض الصور والوثائق من غير إسراف، ولا شك أن الأستاذ (طارق العبودي) دقق في اختياراته فوفق توفيقًا كثيرًا.
بدأ المؤلف بمقدمة تحدث فيها عن بداية الفكرة في كتابة الكتاب وأنها سابقة لوفاة الوالد، وهو أمر حسن، ولا أشك أن الأستاذ طارقًا تمنى كثيرًا أن لو أنجز الكتاب في حياة والده ليراه ويسره ما كتب؛ ولكن القَدَر كان أسبق من القَدْر. وبيّن أنه لن يقتصر في الكتاب على جوانب حياته الخاصة، بل سوف يذكر ملاحظات جديرة بالتسجيل، وكان من جميل ما عزم عليه تجنب التبجيل، وهو من أصعب الأمور وأكثرها إعناتًا لمثل هذا الكاتب؛ إذ حياة الشيخ وأعماله وإنتاجه الغزير تبجله من غير إطراء من أحد أو ثناء.
تحدث المؤلف بعد المقدمة عن نشأة الشيخ وهي نشأة الناس المتواضعة في ذلك الزمان المبتلى أهله بشظف العيش، ومع ذلك نال الشيخ في صباه عناية جده الذي غرس فيه حب العلم وافتتانه به، وهو ما كانت له ثمراته اليانعات مع الزمن، تحدث عن علاقة والده بالشيخ عبدالله بن حميد رحمها الله وملازمته له والترحل معه. وكتب الأستاذ طارق عن ابن حميد «لم يأخذ بيد تلميذه ليصعد السلم، بل زرع في نفسه الثقة بأنه قادر على الصعود»(ص41).
تحدث الأستاذ طارق عن والده (الزوج) فوصف طيب علاقة والديه وسعادة بعضهما ببعض، إذ كان الشيخ خير زوج وخير أب ويحدثنا عن (الأب) يقول «كان تأثير والدي هائلًا علينا جميعًا، وسوف أتحدّث عن نفسي، إذ إنني على قناعة بأني قد ورثتُ كثيرًا من صفاته الشخصية وحظّه»(ص55).
تحدث عن والده الموظف حديثًا مفصّلًا ثم ختم بقوله «واللافت للنظر أن جميع المواقع الوظيفية القيادية التي عمل فيها والدي، ما عدا رابطة العالم الإسلامي، كان هو مؤسسها وأول موظفيها، فمن قيم مكتبة الجامع إلى المدرسة المنصورية، ومن المعهد العلمي إلى الجامعة الإسلامية، ومن ثم الأمانة العامة للدعوة الإسلامية، كلها كانت أجهزة حكومية جديدة ومختلفة المهام»(ص129).
وتحدث عن جانب مهم وهو (المؤلف)، والشيخ العلامة في هذا أعجوبة من أعاجيب الزمن يحار التفكير فيها فغزارة في التأليف وعمق وتنوع وكثير من مؤلفاته هي ثمرة بحث واستقصاء ومسح ميداني ومقابلة رواة وهو ثمرة تحليل ودرس ودقة في التدوين، قال لنا الشيخ حين سئل عن غزارة إنتاجه: أنا قلمي سيّال، أكتب ما دمت مستيقظًا، في المطار وفي الطيارة وفي كل موطن انتظار. تحدث طارق عن كتب الرحلات ومعاجم الأسر، والمعجم الجغرافي، والمعاجم اللغوية، والسير، ويوميات نجدي، ووقفنا على حديث عن شعره ورواياته ومقاماته، وأما عن معاجم الأسر فقال لي رحمه الله سأنتهي من معجم أسر المذنب بعد عامين، وكتبت فيه عنك كتابة تسرك، ثم كانت أزمة كارونا فوفاته رحمه الله.
وتحدث الأستاذ طارق عن ظهوره الإعلامي وفي المناسبات وزهده فيها، ووقفنا على حديث عن (الاثنينيّة)؛ إذ كان الشيخ رحمه الله يفتح منزلة العامر كل اثنين من بعد صلاة المغرب حتى صلاة العشاء، يقتطع من وقته وراحته ليتصدر المجلس يستقبل المريدين من الأقارب والأصدقاء وطلاب العلم من غير شرط للدخول فيكتظ المجلس على سعته بهم، ويجلس الأستاذ الدكتور محمد المشوح أمامه ليرفع صوته بأسئلة ا لحاضرين وربما سأل هو نفسه بسؤال يرى أهمية الإجابة عليه، فيصدح الشيخ بصوته الجَهْوَريّ الفصيح بأمتع الروايات والأحاديث وربما تسمع منه حكاية زيارته لبلد أجنبي فيسرد مشاهداته ويذكر الأماكن والأشخاص بأسمائهم الأعجمية ويفسر معانيها ولا يخرم من ذلك شيئًا ولا تعوقه في ذلك حُبسة أو إرتاج بل تدفق كلام منتظم بأفكار متتابعة لولا أنك تراه ظننته يتلو عليك كتابًا، أحاديث ممتعة أحسن نقل بعضها الدكتور إبراهيم المديهش أو المدهش كما وصفه الشيخ، زرته غير مرة في هذا المجلس فكان يحسن استقبالي ويدني مجلسي منه، وفي مرة سبقت بالدخول إلى المجلس قبيل حضوره فلما دخل نهضت للسلام عليه واستقبله الأستاذ المشوح قائلًا إن أبا أوس جاء، فقال: ورا ما قلتوا لي علشان أفرح، كم أبهجتني كلمته كما أبهجني ثناؤه في مجلسه على صنيعي في معجم أسماء الناس في المملكة العربية السعودية، وكان قرأه وكتب عنه في صحيفة الجزيرة كتابة تلائم سابغ فضله وكرمه.
تحدث طارق عن المؤسسات الثقافية التي عنيت بنشر إنتاج العلامة العبودي، وقال «وأطمح لإخراج عدة كتب سنويًّا بمشيئة الله خلال الأعوام المقبلة حتى الفراغ منها جميعًا عرفانًا لحقه عليّ وإشفاقًا من ضياع شيء من إنتاجه الفكري. وأذكر ذلك علانية لإلزام نفسي أمام محبيه من القرّاء، وليكون ذلك دافعًا لي في عدم التراخي عن إتمام نشر إرثه المكتوب»(ص275).
وقفنا الأستاذ طارق آخر الأمر على خصلة من أهم خصال الشيخ وهو حبه للخير، ومن عرف الشيخ عرف أنه خير كله، ونعمة من نعم الله على بلادنا، ولكن النعم لا تدوم، فهذا حديثه ابنه عن صحة والده فمرضه فالوفاة والقبر والعزاء، رحم الله الشيخ العلامة رحمة واسعة. وختم المؤلف بخاتمة مشجية. ووضع للكتاب فهارس مفصلة.
وأودّ أن أتوجه بالشكر إلى أخي العزيز (طارق بن محمد بن ناصر العبدي) الذي تفضل عليّ بنسخة من كتابه النفيس مزينة بإهداء كريم منه بخط يده الكريمة جزاه الله خيرًا، وأشكره أن ذكرني في كتابه غير مرة ونقل ما قال له الشيخ العلامة عني.
يبقى أن في الكتاب من الفوائد والجمال ما لا يمكن أن يزوى في صفحة أو صفحات، وأنا على ثقة أن القارئ سيستمتع بالكتاب كما استمتعت.