أ.د.صالح معيض الغامدي
لا شك في أن كتابة السيرة الذاتية تعتمد بالدرجة الأولى على الذاكرة أو التذكر، ولكن الذاكرة قد تخون أحيانا ولا تسعف صاحب السيرة في تذكر بعض التفاصيل المهمة في سيرته، فكيف يتعامل كاتب السيرة الذاتية مع هذه المعضلة، أعني فجوات الذاكرة متى ما طرأت أثناء كتابة السيرة؟
ليس هناك إجابة واحدة على هذا السؤال، بل هناك إجابات أو خيارات مختلفة يأخذ بها عادة بعض كتاب السيرة الذاتية عندما يواجهون هذه المشكلة، ولعنا نستعرض بعضها هنا باختصار.
يمكن لكاتب السيرة الذاتية أن يكون صريحا جدا ويخبر قارئه بأن ذاكرته لم تعد قادرة على تذكر بعض التفاصيل، أو أنه ليس متأكدا تماما من دقة بعض التفاصيل التي يسردها، وهذه الطريقة في التعاطي مع فجوات الذاكرة بقدر ما هي أمينة وصادقة، إلا أنها ليست دائما مقنعة للقراء، فقد تجعلهم يشككون في مصداقية كثير مما يورده الكاتب عن نفسه وعن تجاربه الحياتية الأخرى التي يوردها وهو واثق تماما من صحتها. وتشكك القراء يقل ويكثر هنا اعتمادا على مدى قدرة الكاتب على إقناع قرائه بموقفه من عدمه.
ويمكن لبعض كتاب السيرة الذاتية التعاطي مع فجوات الذاكرة بطريقة إبداعية، وذلك بتوظيف مخيلتهم لملء هذه الفجوات أو التفاصيل المفقودة، وذلك بناء على ما يتذكرونه منها وبناء على سياق الأحداث التي يتذكرونها. ولكن هل ينبغي على كتّاب السيرة الذاتية إبلاغ قرائهم بهذه العناصر المتخيلة في سيرهم الذاتية أم لا؟
بعض كتاب السيرة الذاتية لا يهتم بهذا الموضوع ويوظف قدرا من خياله في سد فجوات الذاكرة دون إبلاغ القارىء بذلك لأنه يعتقد أن توظيف الخيال هنا ليس اختلاقا وكذبا، بل هو اجتهاد وتوقع يسنده السياق وحدس الكاتب، أما بعضهم الآخر فقد يشير في مقدمة سيرته الذاتية إشارة عامة إلى أنه اضطر إلى/ أو رأى أن يوظف قدرا من الخيال في سرد مواطن من سيرته دون الدخول في تفاصيل هذا الأمر.
والحقيقة أن كاتب السيرة الذاتية لابد له من توظيف قدر من الخيال في مواطن كثيرة من سيرته لكي يبني نصا سرديا سيرذاتيا مترابطا، وهذه حقيقة يكاد يقر بها أغلب كتاب السيرة ونقادها، ولا أرى حرجا في ذلك، وكنت قد وصفت طبيعة هذا الخيال الذي يوظف في السيرة الذاتية بأنه « خيال قائم على الواقع». ونحن هنا بطبيعة الحال لا نتحدث عن الاختلاقات والأكاذيب التي يتعمد بعض كتاب السير الذاتية إيرادها في سيرهم وإقناعنا بصحتها، فهذا أمر مختلف تماما عن توظيف الخيال الذي نتحدث عنه في سياق فجوات الذاكرة. كما أننا لا نتحدث هنا عن توظيف الخيال فيما يعرف مؤخرا بـ « التخييل الذاتي» الذي يُمزج فيه بين الحقيقة والخيال ويكون توظيف الخيال في هذا النوع من كتابة الذات عنصرا رئيسا متعمدا فيه.
وأخيرا، يمكن لكاتب السيرة الذاتية التعاطي مع فجوات الذاكرة بالرجوع إلى مصادر خارجية أخرى واستشارتها حول ما يكون قد نسيه أو شكك في صحته، فهذه الطريقة قد تساعده على سد بعض الفجوات التي تكتنف ذاكرته، وعادة ما تتم هذه الطريقة بالتحدث إلى أفراد العائلة أو الأصدقاء الذين كانوا حاضرين أثناء الأحداث، أو مراجعة الصور، أو المستندات القديمة، أو إجراء بحث إضافي حول الموضوع… إلخ.
كانت هذه بعض الحلول التي يمكن الأخذ بها لحل معضلة فجوات الذاكرة في السيرة الذاتية، وهناك بالتأكيد خيارات أخرى عند كتاب السيرة الذاتية وقرائها لم نشر إليها هنا، لضيق المساحة أو لأنها لم تخطرعلى بالنا وقت كتابة هذاالمقال.