د.عبد العزيز سليمان العبودي
لم يكن كتاب «تيسرت» للبروفيسور صالح الهذلول، سيرة ذاتية للكاتب فحسب، بل كان لجيل كامل، حيث تشعر معه بالزمان والمكان والناس والتاريخ والجغرافيا والتضاريس. فالكتاب يتضمن أسماء للكثير من الأماكن، والعديد من الشخصيات. وكل شخصية تحمل معها قصة جانبية تتكامل مع حبكة القصة الرئيسية. هذه الحبكة توضح كيف للناجح أن يصنع من المشاكل والعوائق سلماً يصعد من خلاله إلى مراتب النجاح والتفوق مع المحافظة على المُثل والأخلاق.
جمال العبارة وسلاسة الأسلوب وطريقة العرض، وتكامل الفكرة، والقصة المشوقة، تنقل القارئ إلى الصفحة الأخيرة بدون أن يشعر. ومن الأمثلة على الأسلوب الأدبي الرائع للمؤلف، يرويها خلال توديع والدته لأخيه الأكبر حين سافر للرياض للدراسة، يقول فيها: «وصورة أخرى لا أنساها، لا تزال تشعل في صدري حزنًا، وتعتصر قلبي ألمًا، حين كنت أرقب أمي وهي تودّع أخي عبدالله. كانت تقف على سطح بيتنا، ولم تُدر عينيها عن الشاحنة التي أقلّت أخي عبدالله إلى الرياض، وكأنها ترتجيها بألا تخطو مبتعدة. آه أيها القلب الذي يسكن بين جوانح الأم، كم تحمل من آلام وشجن، ومن أسقام وحزن، كانت عبثًا تحاول ألا تنزل منها دمعة، ذرف القلب قبلها دمًا متدفقًا. وهل لأمٍّ أن تفرّط بسهولة بفلذة كبدها ساعة الفراق؟ تصارع الدموع، ثم لم تكد الشاحنة تبتعد، وعيناها تتبعها، وقلبها يتشبث بها. ولم نعد نسمع منها إلا نشيجًا تتصدّع من أجله القلوب، ويصيب من يسمعه بالعدوى فيحذو حذوه. وما زالت على ذلك حتى تحاملت وتصنّعت الصبر وهي تتمتم بما ألهمها الله من تراتيل الدعاء» مثل هذا المثال، تراه بين دفتي الكتاب يتكرر كتحف أدبية رائعة وماتعة، تنساب كنهر يتهادى بين الأشجار والجبال، والسهول والوهاد.
يبدأ الكتاب بتفاصيلٍ مؤثرة عن حياة صالح في طفولته الباكرة. فقد توفي والده في سن صغيرة، مما جعله يتربى في كنف والدته التي تحملت مسؤولية رعايته هو وإخوته. يصور الهذلول هذه المرحلة من حياته مع شعور عميق بالفقدان والاحتياج، لكنه يعكس أيضًا عمق الروابط الأسرية والدعم الذي تلقاه من والدته وإخوته وأقاربه. كانت هذه المرحلة مليئة بالتحديات، حيث تنقل الهذلول بين أماكن عدة نتيجةً للظروف التي كانت تعاني منها أسرته. إلا أن ما يميز هذه المرحلة هو إصراره على التعليم كطريق للنجاح والتميز. وبعد الطفولة الصعبة، تمكن الهذلول من الالتحاق بالعمل مع مواصلة دراستة الثانوية بالرياض، حيث بدأ رحلة تحقيق الذات. ثم كان التحاقه بكلية الهندسة، وتخصص بالعمارة، لتكون نقطة تحول كبيرة في حياته. خلال هذه الفترة، أظهر الهذلول تفانيه الكبير في الدراسة، مع الدعم المعنوي والمادي من أخيه الأكبر، الذي كان له دور في تسهيل طريقه نحو تحقيق أحلامه. تلك الأحلام التي اتضحت معالمها بعد تعيينه معيدا ثم حصوله على قبول من جامعة هارفارد لمواصلة الدراسات العليا هناك.
عندما وصل الهذلول إلى الولايات المتحدة، واجه تحديات كبيرة في التكيف مع البيئة الجديدة. فكانت الصدمة الثقافية من أولى العقبات التي واجهها، حيث اختلفت العادات والتقاليد واللغة بشكل كبير عن ما كان معتادًا عليه في السعودية. لكنه سرعان ما استطاع التكيف والتأقلم مع الوضع الجديد. تخصص الهذلول في مجال العمارة، وبشكل خاص على دراسات تخطيط المدن والبنية التحتية.
أبدى الهذلول تفانيًا كبيرًا في دراسته، محاولًا استيعاب أكبر قدر من المعرفة وتطبيقها على مشاريعه الدراسية. وأثناء إقامته في الولايات المتحدة، لم يكن الهذلول منعزلًا عن محيطه، بل سعى إلى التواصل والتفاعل مع الطلاب الآخرين، هذا التفاعل ساعده في تطوير حس عالٍ بالتفاهم الثقافي والتسامح. يرى الهذلول أن هذه الفترة تَعلم فيها من ناحتين، الأكاديمية والإنسانية، وذلك من خلال تعامله مع أشخاص من جنسيات مختلفة وثقافات متنوعة. هذا التنوع الثقافي أثر على طريقة تفكيره وجعله أكثر انفتاحًا وتفهمًا للاختلاف بين الناس. ويشير الهذلول إلى أن دعم زوجته كان عنصرًا أساسيًا في قدرته على التفوق في دراسته. فكانت تقوم بمتابعة شؤون الأسرة وتربية الأطفال خلال فترات انشغاله بالدراسة، مما يعزز من تركيزه على تحقيق أهدافه الأكاديمية. تعد فترة دراسته العليا في الولايات المتحدة الأمريكية بين جامعة هارفارد في بوسطن ومعهد ماساشوشتس التقني MIT في كامبردج، مرحلةً مفصلية ومهمة في مسيرته الأكاديمية والمهنية، حيث أثرت هذه التجربة بشكل كبير على رؤيته للعالم وشكلت قاعدةً صلبة لانطلاقه نحو النجاح في المجال الهندسي والأكاديمي والقيادي.
بعد إتمام دراسته العليا، عاد الهذلول إلى السعودية محملًا بالمعرفة والخبرات التي اكتسبها في الولايات المتحدة. بدأ الهذلول عمله الأكاديمي في جامعة الملك سعود ثم الإداري بوزارة الشؤون البلدية والقروية. وكان للهذلول دور كبير في تطوير البنية التحتية العمرانية في العديد من المدن السعودية، حيث عمل على مشاريع تطويرية هامة خلال فترة عمله.
كان محبا للعمل ويرى فيه فرصة لخدمة بلاده والمساهمة في نهضتها العمرانية. كما يتحدث بإعجاب عن زملائه في العمل الذين كان لهم دور في دعمه ومساعدته في تنفيذ العديد من المشاريع الهامة. يرى الهذلول أن أهمية العمل الجاد والتفاني، وكذلك الصبر والمثابرة في مواجهة التحديات لتحقيق النجاح. كذلك يعبر عن تقديرٍ عميق لأسرته، ووالدته التي كانت مصدر إلهام ودعم له. الهذلول يولي أيضًا أهمية كبيرة لفكرة «النجاح المتوازن»، حيث يؤكد على ضرورة التوازن بين العمل والحياة الشخصية. رغم انشغاله الكبير في العمل، كان دائم الحرص على الاهتمام بأسرته وتربية أبنائه، ويرى أن النجاح الحقيقي ليس فقط في الحياة المهنية، بل أيضًا في بناء علاقات قوية مع العائلة والمجتمع.
مرحلة التقاعد والتأمل في الحياة تعد من أبرز المنعطفات في سيرة الهذلول، حيث يتحدث عن هذه المرحلة كاشفاً عن مشاعر مختلطة ما بين الفرح بالتقاعد والحرية من قيود العمل المستمرة، وبين الحزن على فراق حياة مهنية استمرت لعقود وشكلت جزءًا كبيرًا من هويته الشخصية.
كان العمل بالنسبة له ليس مجرد وظيفة بل كان أسلوب حياة، ومتنفسًا للتعبير عن ذاته وإشباع طموحاته. يصف الهذلول هذه المرحلة بأنها «فرصة للتصالح مع الذات». ويوضح أن التقاعد أتاح له الفرصة للجلوس مع نفسه وإعادة تقييم الإنجازات التي حققها، والأخطاء التي ارتكبها، والدروس التي تعلمها على مدار السنوات. يتحدث عن مشاعر الرضا والطمأنينة التي بدأت تتسلل إليه بعد فترة من التقاعد، حيث أدرك أن لكل مرحلة في الحياة جمالها وفوائدها.
من الجوانب التي يركز عليها الهذلول في مرحلة ما بعد التقاعد، الاهتمام بالعائلة والاستمتاع بالحياة الأسرية. حيث يعبر عن مشاعر الفرح التي كانت تغمره عندما وجد نفسه قادرًا على قضاء المزيد من الوقت مع زوجته وأبنائه وأحفاده. يرى الهذلول أن التقاعد أتاح له الفرصة ليكون حاضرًا أكثر في حياة أسرته، بعد سنوات من الانشغال المتواصل بالعمل. ويشير إلى أن الدعم الذي قدمته له زوجته خلال سنوات عمله الطويلة كان أساسًا لنجاحه المهني.
يعد كتاب «تيسرت» وثيقة شخصية مهمة، توثق مسيرة حياة مليئة بالتحديات والإنجازات. ويعبر الكتاب عن روح المثابرة والطموح التي يتمتع بها المؤلف، ويقدم نموذجًا ملهمًا لكل من يسعى لتحقيق أهدافه رغم الصعوبات. بأسلوبه البسيط والمباشر، تمكن الهذلول من إيصال رسالة عميقة حول قيمة العمل الجاد وأهمية التمسك بالأمل والإيمان بالنفس. هذا الكتاب ليس فقط سيرة ذاتية، بل هو أيضًا مصدر إلهام وتعليم لكل من يرغب في الاستفادة من تجارب الآخرين.