أ.د. محمد خير محمود البقاعي
التاريخ منظم العقول، ولب العلوم، وضابط المضمون، والمصطلح. لقد آثرت أن أكتب هذه الشذرة لجلاء بعض ما نخلط القول فيه عندما نلحظ أن مسيرة العلم تسبقنا، متجاوزة بعض أوهام الأولية والسبق في مجال العلوم الإنسانية لأن مسيرة هذه العلوم متوازية متعاضدة يكمل بعضها بعضاً ولا يجوز فيها القطع بأولية وانفراد إلا على استحياء.
أقول هذا الكلام مستلهما مسيرة المبدعين من العرب الأوائل الذين تحدثوا عن مضائق القول وصعوبة الجديد وسموه بذلك لضيق المسالك كما جاء في قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لولا أن الكلام يعاد لنفد» - (الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 196 الطبعة الأولى البجاوي، وأبو الفضل إبراهيم 1952 م).
بدأت قصتي مع التاريخ منذ حصولي على الشهادة الثانوية سنة 1976 م. وكانت قبل ذلك محصورة بمفهوم يقوم على قراءة السير التاريخية الشائعة بين أبناء جيلي وهي سير شخصيات تاريخية حولتها الذائقة الشعبية إلى أساطير (سيرة عنترة بن شداد، سيرة سيف بن ذي يزن، سيرة علي الزيبق، والتغريبة الهلالية) وغيرها، فضلا عن روايات جرجي زيدان التاريخية، وكان الوالد الحاج محمود مصطفى البقاعي رحمه الله (1914-1994م) يطلب مني قراءة بعضها في جلسات ليالي الشتاء الطويلة مع كوكبة من أصحابه قرب المدفأة وعلى صوت المطر وقرقعة أكواب الشاي. لقد كانت درجتا اللغة العربية والتاريخ هي، بعد توفيق الله، السبب في تجاوزي امتحانات الثانوية ودخول قسم اللغة العربية في جامعة دمشق. وظل للتاريخ مكانة في نفسي فكنت أجلس في الصف الأول عندما كان التاريخ مادة ندرسها في القسم المذكور، وما زلت أذكر أستاذة المادة التي كانت تدرسنا: الدكتورة أمينة البيطار (1938-….).
ثم التقيت بها في المملكة العربية السعودية، إذ كانت صديقة لزوجتي الدكتورة رندة سلامة اليافي التي عاشت في أسرة قريبة من التاريخ؛ ورافقني حب التاريخ فكنت أحضر دروس بعض كبار أساتذته في قسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة دمشق. ثم اكتشفت أن كبار أساتذتي في قسم اللغة العربية مهتمون بالتاريخ والدراسات في مجال الأدب تبدأ بتاريخ الأدب واللغة، ويسلك الأساتذة في أغلب دراساتهم مداخل تاريخية يعدونها منظماً لأفكارهم وقد كان أستاذي البروفسور محمد رضوان الداية (أبو لؤي) يحفظه الله متبحرا في التاريخ الأندلسي ولا يكاد يفوت مكتبته كتاب من أصوله، بل إن لكتب تاريخ الأدب واللغة وبقية العلوم مكانة مكينة في إيصال المراد. وكُتب تاريخ الأدب والعلوم كلها التي انصرف العلماء إلى تأليفها (شوقي ضيف، عمر فروخ، طه حسين وغيرهم) تتوسل بالمنهج التاريخيّ في جلاء كثير من مسالك تلك العلوم أما في فرنسا فقد أوصى أساتذتنا بقراءة تاريخ فرنسا ولغتها والأحداث التي صنعت تاريخها لفهم كثير من جوانب الحياة المعاصرة وأوصوا على وجه الخصوص بتواريخ الأدب واللغة والدولة. كان كل هذا محمولا في ذاكرتي عندما وصلت إلى المملكة العربية السعودية وكان من حسن الطالع أن يكون قسم التاريخ في كلية الآداب حينئذ مجاورا لقسم اللغة العربية؛ وكان فيه أساتذة كبار من ذوي الكفاءة العالية في التاريخ السعودي وعهود تاريخ البلدان الأخرى عربية أو أجنبية قديما أو معاصرا.
كان الاطلاع الأول على التاريخ السعودي عندما أسند إلي الأستاذ الدكتور يحيى بن جنيد يحفظه الله في عام 1998م ترجمة رحلة الأديب والشاعر والرحالة الفرنسي شارل ديدييه Charles Didier (1805-1864م).
وترافق ذلك مع سعي الصديق الإعلامي المؤرخ يوسف العتيق إلى مرافقتي لمجلس شيخي وموئل العلوم والكرم أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري يحفظه الله فكان لقاؤه نقطة تحول في التعرف على كتب التاريخ السعودي ومآثره وأعلامه.
ثم كانت الانطلاقة الميمونة عندما أولاني عالم الأنثروبولوجيا والتراث الشعبي القديم والأستاذ في قسم الدراسات الاجتماعية في جامعة الملك سعود البرفسور سعد العبد الله الصويان - الثقة للانضمام إلى أسرة ترجمة «موسوعة الملك عبد العزيز سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية» وتحريرها في مجال الوثائق الفرنسية. وقد أتاح لي ذلك اللقاء بكوكبة من أساتذة التاريخ واللغات، وفي مقدمتهم أستاذ التاريخ الحديث، العارف بمصادر التاريخ السعودي العربية والأجنبية على اختلاف مؤلفيها وأماكن وجودها؛ البرفسور عبد الفتاح حسن أبو علية وعدد من أساتذة التاريخ السعودي والتاريخ بفروعه المتنوعة؛ أستاذنا الدكتور عبد العزيز الهلابي بعمق نظرته وسعة اطلاعه وفكره النقدي الرصين وأستاذنا الدكتور عبد اللطيف الحميدان، رجل الكتب يستقدمها من أنحاء العالم العربي والعالم وكان لنا كلما سنحت الفرصة حوار عن المصادر الأجنبية للتاريخ السعودي وزودني ببطاقات دون عليها كثيرا من أسماء الكتب والمؤلفين بالفرنسية. والأستاذ الدكتور عويضة الجهني الذي كان لي شرف قراءة الفصل الذي نقله هارفرد جونز بريدجز في كتابه «تاريخ الوهابي» الذي ترجمه البروفسور عويضة وفقه الله.
أما الأستاذ الدكتور عبد الله المطوع فهو من الأصدقاء الذين يتصفون بالعلم الرزين، وتوخي الدقة، وعمق التحليل، وسعة الاطلاع، وكم استفدت من الحوارات التي كانت تدور بيننا عن الدرعية والحياة الاجتماعية فيها. أما الأستاذ الدكتور خالد البكر فقد كان لي شرف الاستماع إليه في محاضرة عن التاريخ الأندلسي في مجلس شيخنا العلامة أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري يحفظه الله بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبد العزيز يحفظه الله الذي كان سفير المملكة في إسبانيا، وقد أثنى على المحاضرة والمحاضر. والأستاذ الدكتور فهد السويكت الذي تخرج في جامعة ليون الثانية عام 1995م. والأستاذ الدكتور عبد الغفور إسحاق روزي الذي كان كثير التردد على مكتبي لشعوره كما صرح بالراحة ومناقشة ما يشغله في مسألة التأليف في القهوة في التراث العربي، وقد كتب بحثا ضافيا نشرته مجلة «عالم الكتب» السعودية، وصرح أنه يكتب في التاريخ الأندلسي منذ سنوات ولم تجد كتاباته الصدى الذي لقيه بحثه عن القهوة فضحكنا ونحن نحتسي كوبا من القهوة. أما الأستاذ الدكتور عبد الله بن ناصر السبيعي فكان ممن كنت أشعر بالغبطة والارتياح عندما كان يمر بمكتبي ونتجاذب أطراف الحديث عن ترجمة النصوص التاريخية من اللغات الأجنبية ومستلزمات ذلك من دقة وسعة اطلاع وإتقان لغة الانطلاق وثقافتها وكذا لغة الوصول. وسيكون له يحفظه الله إسهام لن أنساه في استقطابي إلى مركز الملك سلمان لدراسات تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها عندما كان مشرفا عاما عليه. ومن كبار أساتذة القسم الذين انعقد الود معهم الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن ناصر السيف يحفظه الله وقد كان مستشارا في المجلس العلمي لجامعة الملك سعود عندما تقدمت لمعادلة الترقية التي حصلت عليها في جامعة حمص لاعتمادها في جامعة الملك سعود، ولما قرأ سيرتي الذاتية والعلمية اتصل بي إلى مكتبي وسألني عن عدد البحوث التي تقدمت بها للترقية هناك لأن الأوراق لم تشر إلى ذلك فأخبرته أن المطلوب هناك بحث واحد فأجابني والله لو قلت لي إن المطلوب خمسة بحوث لأن السيرة العلمية التي تقدمت بها فيها أكثر من المطلوب هنا وسأوصي باعتماد الترقية فشكرت له إطراءه وانعقدت بيننا أواصر الود المستمرة. وإن كنت أنسى فلن أنسى زملاء أعزاء اجتذبتهم كلية السياحة والآثار منذ إنشائها وهم أقرب ما يكون للتاريخ وعلى رأسهم الصديق الأستاذ الدكتور سعيد بنايز السعيد أول عميد لكلية السياحة والآثار الذي كانت لنا معاً أيام لقاء وحوارات كانت تنصب على ترجمة الكتب التي ألفها الغربيون عن الدولة السعودية وله في هذا ترجمات رصينة وبحوث مفيدة.
كنت ألقاه بصحبة الصديق الدكتور عبد الله محمد المنيف وأ.د. مشلح كميخ المريخي صاحب مقولة: «التاريخ، والآثار، وجهان لعملة واحدة.»
أما العمدة الدكتور عبد الله المنيف والدكتور عبد الرحمن الشقير فقد تعلمت منهما أشياء كثيرة عن التاريخ السعودي وكتابه وكتبه وما زلت. أما الأستاذ الدكتور محمد آل زلفة فعرفته مداخلا في المنتديات التي كنت أتردد عليها مداخلاته فيها شيء من الاستفزاز غير المقصود غالبا وربما كانت تفوته طبيعة التنغيم التي تحملها كلماته وشهدت له غير موقف في هذا السياق في ندوات ومجالس علمية. ربما خانتني الذاكرة في نسيان بعض الأسماء والأحداث في علاقتي بالتاريخ عموما لأنها علاقة أرست أسسها في مساري وحملتني إلى أفق بعيدة في السؤال والتعلم. كنت أتمثل وأنا أرى التطور الشخصية التي تستكمل بناء معارفها لدى الصديق الدكتور عبد الرحمن الشقير موازنة بين التاريخ والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع متخذة من سعة الاطلاع وتجاوز العقبات سننا أفضى به إلى أن يضع قدما راسخة في المجالات التي أشرت إليها تشهد على ذلك أبحاثه ومبادراته التي تسلك مسلكا تكامليا جعله من باحثي الصف الأول في تحليل التاريخ السعودي والمجتمع السعودي من منظور منهجي يتطلع إلى الآفاق البعيدة للفهم والارتقاء.
إن الأقدار الجميلة تأخذك بتوفيق من الله، وبصفاء النية إلى تطوير الذات وتعميق الرؤية؛ وقد تمثل ذلك في لقائي بالصديق الصدوق الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر(1371هـ/1952م-1437هـ/2016م) رحمه الله، وقد كانت لنا معا جولات حوار مثرية عن التاريخ السعودي والمنهجية التاريخية وكانت لقاءاتنا جلسات حوار تمتد ساعات في مكتبي أو في مكتبه أو منزله وكانت له مقالة أسبوعية في صحيفة الرياض (بدأها عام
(1420هـ/2000م) سماها «حديث الأربعاء» وجاء الاسم اقتداءً بزاوية عميد الأدب العربي طه حسين. تطرق الدكتور في زاويته إلى العديد من الأفكار، وكتب العديد من المقالات التحليلية التي غطت جوانب من تخصصه واهتماماته مثل السياسة الإقليمية والدولية، والقضايا الفكرية والتاريخية العربي ة والمحلية، والعلاقات السعودية الأوربية الأمريكية الصينية، وموضوع الوهابية، والمناهج التعليمية، والتطرف والإرهاب، والمشهد الاجتماعي، والديني، ومراجعة الكتب العربية، والأجنبية ذات الأهمية القصوى للثقافة السعودية العربية، أو ذات الصلة بالتاريخ الإسلامي، وتاريخ الجزيرة العربية، والمملكة العربية السعودية)؛ خصني فيها بعدد من المراجعات لرحلة شارل ديدييه إلى الحجاز، وكتاب فيلكس مانجان عن الدولة السعودية الأولى وحملات محمد علي على الجزيرة العربية المستلة مع كل ما يتعلق بالجزيرة والدولة السعودية الأولى. وحققنا معا ودرسنا كتاب: (رحلة فتح الله ولد انطوان الصايغ الحلبي إلى بادية الشام وصحاري العراق والعجم والجزيرة العربية)، الذي نشرته دار جداول -بيروت 2016م.
وكان رحمه الله من القائلين بالإجراءات التكاملية لدراسة التاريخ فكتب بحثاً بعنوان: (استعمال الحاسوب في دراسة التاريخ، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2000م)، وغير ذلك من أبحاث أغنت الدراسات التاريخية والاجتماعية.
لقد كان فقده المأساوي في حادث دهس في القاهرة خسارة كبيرة عبر عنها محبوه من كل الاختصاصات والاتجاهات.
أما المرحلة الفاصلة في علاقتي بالتاريخ وأعلامه فكانت بلا شك تشرفي بلقاء صاحب السمو الأستاذ الدكتور تركي بن فهد بن عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل بن تركي آل سعود يحفظه الله. وكان ذلك في معرض الكتاب الذي كانت تقيمه جامعة الملك سعود في بهو الجامعة وامتداداته حتى نهاية مبنى مكتبة الملك سلمان يحفظه الله، وكنت برفقة الدكتور عبد الله المنيف الذي أخبرني أننا سنقابل في المعرض الأمير تركي وهو من المغرمين بالتاريخ ودارسيه وذو رؤية تاريخية موضوعية في النظر إليه، خبرت ذلك وسمعته في سنوات كنا نلتقي فيها في قصره العامر ومكتبته التي كنت شاهدا على غناها بأكثر طبعات الكتب علمية في تحقيقها وتأليفها عند القدماء والمحدثين، ولما تولى أميرنا كما كنا نحب مناداته وصار لنا لقاء دوري في مجلسه العامر وكثيراً ما كنت والدكتور المنيف نبكر في الحضور ليكون لنا متعة مجالسته في المكتبة نطلع على مقتنياته من الكتب. كان مجلسه أدام الله انعقاده يضم كوكبة من أساتذة التاريخ، والأدب، وعلم الاجتماع، ومن المثقفين المعنين بالتاريخ وبما يدور في فلكه من علوم. أذكر منهم د. عبد الرحمن ناصر السعيد، والدكتور عبد الرحمن عبد الله الشقير، والدكتور حمد العنقري، والباحث الأستاذ سليمان الحديثي، فضلا عمن يكون حضورهم متقطعا كالبروفسور سليمان الذييب وبعض الضيوف الذين يزورون الرياض كالمؤرخ العلامة الأستاذ الدكتور بشار عواد معروف الذي كان لا يمر في الرياض دون أن يكون لجلسة الأمير نصيب في الاستماع إليه في تجاربه وإنجازاته، وكنت في بعض الأحايين أرافقه لزيارة شيخنا أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري يحفظه الله الذي كانت تسره رؤيته وتكون الليلة من أجمل اللقاءات العلمية الحافلة التي ما زالت ذكراها غضة طرية بما كانت تحفل به من فوائد علمية جليلة في العلم والحياة. ولما ازدان منصب رئيس قسم التاريخ بتولي سمو الأمير دفة القيادة فيه كنت في كل عام أحلّ محاضراً في ندوة قسم التاريخ والحضارة وكان الحضور نوعياً وينصب على موضوعات حيوية تتعلق بالمصادر الفرنسية القديمة والحديثة عن تاريخ المملكة والجزيرة العربية. كما كنت أسعد بالاستماع إلى ضيوف القسم من الجامعات العربية والعالمية.
وما زال شغف سمو الأمير واهتماماته العلنية في المجالات العلمية والتراثية تطرق مسمعي في معتزلي القسري نسأل الله العافية. ولنا لقاء.