حامد أحمد الشريف
تتهادى في أحد الأزقة زائغةَ البصر مهدودةَ القوى تكاد تغيب عن الوعي، فقد أنهكها كثيرًا هذا المشوار الذي لم يكد يخلو منه يومٌ من أيّامها؛ وكعادتها، عند اقترابها من المبنى الذي تقصده، شعرت بنبضات قلبها تتسارع، والعرَق يتفصّد من جبينها، فلم تجد مفرًّا من التنحّي جانبًا والجلوس في مكانها المعتاد، ليس بعيدًا عن البوابة، على ذلك الرصيف الذي باتت تعرفه ويعرفها. كانت قد اعتادت إخراج الظرف من جيبها وفضّ الرسالة التي كتبتها، وقراءتها للمرّة الأخيرة، قبل أن تضعها في يد موظّف البريد، وتَقفُل راجعة.
حين انتهت، طوت الورقة ووضعتها في الظرف، ومرّرت لسانها على أطرافه، وأغلقته على عجل، ثمّ دلفت إلى المكتب في خطواتٍ سريعة.. قامت بعد ذلك بتسليم الرسالة إلى الشاب الذي يجلس إلى طاولة الاستقبال، وهمّت بالخروج وهي لا تزال على حالتها السابقة من التوتُّر والقلق، وقد بدأت أدمعها تتقاطر على وجنتَيْها.
- لحظة، إذا سمحتِ..
قال لها الموظّف وهو يقلِّب الظرف بين يديه. واستطرد باسمًا:
- يبدو أنّك نسيتِ كتابة العنوان يا سيّدتي!!
اِلتفتت إليه وقد اغرورقت عيناها بالدموع، قبل أن تكمل سيرها مسرعةً إلى خارج المكتب، متجاهلةً صيحاته وهو يحاول ثنيها عن الخروج، طالبًا منها العودة لأخذ الرسالة التي لا يعرف ماذا يفعل بها! عند ذلك اقترب منه أحد الموظّفين المسنين وهو يحمل حقيبته مغادرًا المكان للمرّة الأخيرة، وأمسكه من كتفه حين رآه يهمّ بملاحقتها، محاولًا تهدئته، قبل أن يهمس في أذنه قائلًا:
- يبدو أنّه كان عليّ تنبيهك أيضًا بأمر هذه الفتاة قبل رحيلي؛ لقد دأبنا منذ سنين على أخذ رسالتها والاحتفاظ بها... فهي تحب والدها وتراسله باستمرار!