أ.د.محمد بن حسن الزير
في اليوم الأول من الميزان الموافق 9-3-1446هـ، 23-9-2024م تطل علينا وتحل بساحتنا، نحن المواطنين السعوديين، الذكرى المجيدة الرابعة والتسعين لليوم الوطني؛ ذلك اليوم المبارك على مواطني المملكة العربية السعودية بخاصة، وعلى العرب والمسلمين بعامة؛ ذلك اليوم الذي أعلن فيه المؤسس الملك الموفق عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - توحيد البلاد والعباد، وطنا ومواطنين؛ ذلك البلد الذي فيه أول بيت وضع للناس، وفيه مهد اللغة العربية ذلك اللسان العربي المبين الذي جعله الله لسانا لرسالته للناس كافة، بيانا وبلاغا، وهو البلد الذي شعَّتْ منه رسالة الإسلام، وبعث الله فيه خاتم أنبيائه، محمد بن عبدالله النبي العربي، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، هذا البلد الذي فيه مهوى أفئدة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فجمع الله شمل أهل هذه البلاد العزيزة الكريمة؛ بسبب الملك عبدالعزيز، تحت راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وتحت اسم (المملكة العربية السعودية).
وللأديب كمال الكيلاني شهادة بحق، في حق الملك عبدالعزيز وحق شعبه السعودي؛ حين قال: «كل ما في الجزيرة العربية اليوم.. هو غرس يَدَيْ عبد العزيز فاسمه كان ولا يزال وسيبقى مقرونا بكل إنجاز كبير تشهده المملكة العربية السعودية، هذا اليوم أو في المستقبل... وهذا ما لا نرى له مثيلا في العالم...».
وإننا؛ نحن السعوديين من مواطني هذه البلاد العزيزة؛ من غربها وشرقها، وشمالها وجنوبها، ووسطها، وفي كل أرجائها لنتذكر هذه المناسبة ونحتفي بها، شكرا لله على هذه النعمة العظيمة، والمنة الكبيرة، فتذكر هذا البطل المؤسس، بكل مشاعر الحب والتقدير والإكبار الصادق، والامتنان العظيم، والداء المخلص، ونتذكر معها صفات هذا الموحد الفذ، وسماته المتميزة، التي كان لها الأثر الكبير فيما حققه من عمل كبير، وما أنجزه من وحدة هي مضرب المثل، في العمق والثبات، وفي الفرادة والتميز، وهي صفات كثيرة حباها الله بفضله ومنّه، عليه وعلى أهله وأمته ومِلته، ونحن إذ لا نتمكن من إحصاء تلك الصفات والنعم؛ فلا أقل من أن نذكر بعضها، وفي الطليعة من تلك الصفت والسجايا، والأسس لها، إيمانُه بربه إيمانا مهتديا بعلم شرعي، ومنها علوُّ الهمة والطموحُ بلا حدود، وهو طموحٌ تغلغل في تفكيره وحرك مسعاه نحو استعادة بناء مجتمعه على أسس مبدئية ومنهجية وعلمية، وإعادة مسيرة حركة أسلافه الإصلاحية سيرتها الأولى، ومنها شجاعتُه وصبرُه وقوةُ تحمله، ومنها كرمُه وسخاءُ نفسه، ومنه حنكتُه وحسنُ سياسته وتدبيره وتصرفاته في مواجهة المواقف، وسلامة توجيهاته وخططه، ومنها سلامةُ صدره من الحقد والضغينة، ودليل ذلك ما اتصف به من العفو عند المقدرة، ومنها الوفاء بالعهد وعدم خيانة العقود والعهود والمواثيق.
إن تلك الصفات الكثيرة المتنوعة التي اجتمعت في شخصيته، هبة من الله وتوفيق، كان لها أثرُها البارز، ودورُها الفعال في تحقيق ما كان يصبو إليه الملك عبدالعزيز من طموحات عالية وأهداف سامية، ومملكة عربية سعودية، اجتمعت فيها كلمة أهلها، وتوحدت قلوبهم، وتآلفت أنحاؤهم، تحت قيادة واحدة، وفي ظلال راية التوحيد العزيزة العالية الخفاقة.
ولكننا في هذه الذكرى (الرابعة والتسعين) ليوم الوطن، نود أن نتوقف عند صفة مهمة وأساسية في شخصية المؤسس؛ ألا وهي صفة (الإيمان والعلم) الإيمان الصادق بالله، والتشبع العميق بعقيدة التوحيد الصافية، والحرص على الوفاء لها، قولا وعملا، والتسلح بالعلم بالله، والتفقه في شريعته الوسطية السمحة، وبخاصة أن الملك عبدالعزيز تهيأت له ظروف بيئية مناسبة في مراحل نشأته وتفتح وعيه، أهَّلته لأن يتمتع بتلك الشخصية الفذة، وما تحلت به من صفات ومزايا؛ فقد ولد ونشأ في كنف أسرة عريقة في التدين، وعريقة في العمل الصالح، وعريقة في خدمة الدين والعقيدة والأمة، يشهد لها تاريخها وتاريخ أسلافها، وجهود رجالها ومجاهداتهم في سبيل بناء دولة آمنة، ومجتمع صالح، على أسس من الدين المكين والعقيدة الصافية، والمنهج الوسطي القويم، وها نحن اليوم نعيش في ظلال أمن وأمان، ورخاء واستقرار، ونمو وتطور هذه الدولة التي تحققت بفضل الله، ثم بكفاح الملك عبدالعزيز ورجاله المخلصين الأوفياء من آباء هذا الوطن الكريم وأبنائه.
لقد أتيح للملك عبدالعزيز منذ طفولته وصباه، بيئة دينية صالحة، وتهيأ له تعليم ديني مبكر على أيدي علماء صالحين مخلصين؛ منهم الشيخ القاضي عبدالله الخرجي؛ حيث تلقى على يديه مبادئ القراءة والكتابة، وتعلم بعض سور القرآن وحفظها، ثم واصل قراءة القرآن على يد الشيخ محمد بن مصيبيح، ثم تعمق في دراسته الدينية والشرعية في مجال العقيدة وأحكام الفقه التفصيلية، على يد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف، إضافة إلى ما كان يتلقاه باستمرار بشكل يومي من دروس تربوية، ودروس تاريخية، وتعليمية من أفراد أسرته من أشياخهم وشيخاتهم، رجالا ونساء، وكذلك ما يتلقاه في الحياة العامة، في مجالس العلم والعلماء وحلقات دروسهم، ثم ما كان ينتهجه طوال مسيرته القيادية حين تولى مسؤولية ولاية الأمر، والكفاح المتواصل لتحقيق وحدة الوطن وجمع شمل المواطنين؛ من استصحابه للعلماء والأدباء وأهل الرأي، في حله وترحاله، وترتيبه أوقاتا لسماع القرآن الكريم، أو أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتاريخ السلف والصالحين، وتخصيصه أوقاتا له ولرجاله لإقامة دروس شرعية وتعليمية.
ومن آثار هذه الصفة الأساس في شخصية الملك عبدالعزيز، وهي صفة (الإيمان والعلم) أننا وجدناه منذ أيامه الأولى وطيلة حياته مستبطنا لروح الإيمان العميق بربه معتمدا عليه، يلجأ إليه في الملمات، كثير الدعاء إليه، ملحاحا عليه يسأله العون والنصر، ووجدناه في مسيرته، وتوجهه، يبني الدولة والمجتمع على العلم الشرعي، والتعليم العام بعامة للمواطنين حاضرة وبادية، ويسعى باهتمام وعناية وإصرار على العمل من أجل تأسيس المدارس ونشرها في الحواضر والبوادي؛ حيث وجه بإنشاء (مديرية المعارف)، واتجه إلى إنشاء الهجر لتوطين البادية وألحق بها المعلمين والموجهين والوعاظ لتعليم قاطني تلك الهجر وتثقيفهم بتعليمهم أمور الدين، وتوعيتهم بمبادئ الشريعة السمحة، وتعريفهم بأحكامها الأساسية وتوجيهاتها السامية في العبادات والمعاملات والأخلاق، وشجع على وجود الكتاتيب والمدارس الأهلية في المدن والقرى، كما كان حريصا على نشر الكتب وطباعتها على نفقته الخاصة وإيقافها على طلبة العلم، وهو دليل ظاهر على حرصه على ترسيخ العقيدة، ونشر العلوم الشرعية والعربية بخاصة والعلوم النافعة بعامة، وتوعية الحاضرة والبادية وتثقيفهم بالمفاهيم الدينية السليمة والأحكام الشرعية الصحيحة، مستهدفا بناء مجتمع إسلامي يقوم على عقيدة سليمة عميقة تستند إلى مفاهيم قرآنية صحيحة، وقد كان ذلك الاتجاه هو التركيز الأساس للمملكة العربية السعودية في كل مراحلها السابقة، وتواصل ذلك الاتجاه في كل مراحل تطوراتها الوثابة اللاحقة؛ منذ تأسيسها على يد المؤسس الكبير -طيب الله ثراه- إلى يوم حاضرها الزاهر في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز حفظهما الله وأيدهما بتوفيقه ونصره.
ثم نختم تذكرنا في هذه المقالة بشيء من كلام الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه؛ مما يعكس حقيقة هذه الصفة الإيمانية المتجذرة في أعماقه وسلوكه، وهي مجرد أمثلة نسوقها من مواقف متنوعة، وصدرت خلال مراحل من حياته ومسيرته.
ففي المؤتمر العام في الرياض في شهر جمادى الأولى سنة 1347هـ/ 1928م، الذي دعا إليه الملك عبدالعزيز واشترك فيه العلماء ورؤساء القبائل وبلدان الحواضر والبوادي، وجماعة المسلمين وعامتهم ووفودهم، وقد افتتح الملك المؤتمر بكلمة ارتجالية ضافية صريحة صادقة وافية شافية، نكتفي هنا ببعضها؛ فقد قال: «أيها الإخوان؛ تعلمون عِظم المنة التي منَّ الله بها علينا بدين الإسلام، إذ جمعنا بعد الفُرقة، وأعزنا به بعد الذلة. واذكروا قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ} الآية، إن شفقتي عليكم وعلى ما منَّ الله به علينا وخوفي من تحذيره، سبحانه وتعالى بقوله: «إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم» كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتذكروا أولا؛ ما أنعم الله به علينا، فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة. وثانيا؛ لأمر بدا في نفسي وهو أنني خشيت أن يكون في صدر أحد شيء يشكوه مني أو من أحد نوابي وأمرائي بإساءة كانت عليه، أو بمنعه حقاً من حقوقه، فأردت أن أعرف منكم لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك، وأكون قد أديت ما عليَّ من واجب. وثالثا؛ لأسألكم عما في خواطركم وما لديكم من الآراء مما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم. أيها الإخوان؛ إن القوة لله جميعا، وكلكم يذكر أنني يوم خرجت عليكم كنتم فرقا وأحزابا، يقتل بعضكم بعضا، وجميع من ولاه أمركم من عربي أو أجنبي، كانوا يدسون لكم الدسائس لتفريق كلمتكم وإضعاف قوتكم لذهاب أمركم، ويوم خرجتُ كنتُ محلَّ الضعف، وليس لي من عَضُدٍ وساعد إلا الله وحده، ولا أملك من القوة إلا أربعين رجلا تعلمونهم، ولا أريد أن أقصَّ عليكم ما منَّ الله به عليَّ من فتوح، ولا بما فعلتُ من أعمال معكم كانت لخيركم؛ لأن تاريخ ذلك منقوش في صدر كل واحد منكم، وأنت تعلمونه جميعاً، وكما قيل: السيرة تبين المسيرة..» إلى آخر الخطاب.
ومما جاء في حديثه لأهل المدينة المنورة قوله: «... إنني أرى كبيركم والدا، وأوسطكم أخا وأصغركم ابنا، فكونوا يدا واحدة، وألفوا بين قلوبكم، لتساعدوني على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقي، إنني في هذه البلاد العربية الإسلامية، خادم للدين، وخادم للرعية، إن الملك لله وحده، وما نحن إلا خدم لرعايانا» إلى آخر ما قال.
ومما قاله متحدثا في شأن مجلس الشورى في مكة المكرمة، وما ينبغي أن يكون عليه أعضاء مجلس الشورى؛ قال: «بعض الحكومات تجعل لها مجالس؛ ولكنها وهمية أكثر منها حقيقية، تُشكل ليقال إن هناك مجالس وهيئات؛ أما أنا فلا أريد أوهاما، بل حقائق، أريد رجالا يعملون؛ فإذا أشكل عليَّ أمرٌ من الأمور رجعتُ إليهم في حله، وعَمِلْتُ بمشورتهم، أريدهم أن يعملوا بما يرون فيه المصلحة. واعلموا ألا سلطان عليهم سوى سلطان الله، وما أنزل من وحي وشريعة».
ومن كلامه أيضا ما جاء في وصيته التي أبرق بها لولي عهده الأمير سعود بن عبدالعزيز، ولكل من يتولى أمر ولاية المسلمين، بشأن تحكيم الشريعة، والنظر في أمر المسلمين عامة، والأسرة خاصة، والحرص على تعلم العلم، ومعرفة العقيدة؛ يقول:
«تفهم أننا نحن والناس جميعا، ما نعز أحدا، ولا نذل أحدا؛ وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره (عياذ الله) وقع وهلك. موقفك اليوم غير موقفك بالأمس، ينبغي أن تعقدَ نيتكً على ثلاثة أمور: أولا- نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد، ونصرة دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبَّد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله، سبحانه وتعالى، إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه. ثانيا: عليك أن تَجِد وتجتهدَ في النظر بشؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرا وعلانية والعدل في المحب والمبغض وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها، باطنا وظاهرا، وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم. ثالثا: عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أسرتك خاصة؛ اجعل كبيرهم والدا ومتوسطهم أخا وصغيرهم ولدا، وهن نفسك لرضاهم، وامح زلتهم، وأقل عثرتهم، وانصح لهم، واقض لوازمهم بقدر إمكانك؛ فإذا فهمتً وصيَّتي هذه ولزمتَ الصدقَ والإخلاص في العمل فابشر بالخير.
«وأوصيك بعلماء المسلمين وخيار القوم واحرص على تعليم العلم لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة، احفظ الله يحفظك».
هذا هو الملك عبدالعزيز، الملك المؤمن، والقائد صاحب السماحة والصفح، وصاحب الخلق الرفيع، والقلب لكبير، الذي يتعالى على الحقد ومشاعر الضغينة، وهو الذي كانت نخوته؛ «أنا أخو نورة معزي!».
رحم الله الملك عبدالعزيز، وطيَّبَ الله ثراه، وغفر له جزاء ما قدم من عمل صالح عظيم للدين والوطن والأمة.