د. عيد بن مسعود الجهني
سيسجل التاريخ في بطون صفحاته الأمر الملكي رقم أ/38 تاريخ 15-2-1439هـ الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود المتضمن مكافحة الفساد والمفسدين المعتدين على المال العام.
وقد جاء في صدر ذلك الأمر الملكي التاريخي قوله تعالى: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص 77، وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون} البقرة 188، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه مسلم.
إنه أمر ملكي غاية في الأهمية وغير مسبوق، جاء بعد أن ظهر الفساد في بعض الجهات الإدارية والمالية والشركات التي تملك الدولة حصص فيها، وفي بعض المشاريع الحكومية صغيرها وكبيرها تشم فيها رائحة الفساد من بعيد.
قوله -عليه الصلاة والسلام- (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) رواه مسلم.
وقوله -صلى الله عليه وسلم- (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء قالوا يا رسول الله ومن الغرباء قال الذين يصلحون ما أفسد الناس) رواه الطبراني. وبذا يتعاون الفاسدون الكبار والصغار على نهب المال العام وتعطيل مصالح المواطنين في هذا العالم العربي، الذي يحوي بين جنباته أكثر من (75) مليون إنسان تحت خط الفقر، ناهيك عن أن أكثر من 15 مليون عربي يعانون من سوء التغذية، وحوالي 46 في المئة ضحية الأمية!
إن فساد بعض (الموظفين) الذين بحكم موقعهم الوظيفي يملكون سلطة واسعة في اتخاذ القرار والتحايل على القوانين واللوائح، بلغ حد البذخ غير المحدود في الصرف من الأموال التي استولوا عليها من القطاع العام وما يتبعه من هيئات ومؤسسات وشركات، صرفوا كمن لا يخاف الفقر ويعيشون عيشة مترفة تتجاوز الحدود!
لذلك جاءت رؤية 2020 - 2030 مطبقة للأمر الملكي التاريخي إذ تقول:
(لن نتهاون أو نتسامح مطلقا مع الفساد بكل مستوياته سواء أكان مالياً أم إدارياً، وسنستفيد من أفضل الممارسات العالمية لتحقيق أعلى مستويات الشفافية والحوكمة الرشيدة في جميع القطاعات، وسيشمل ذلك اتخاذ كل ما هو ممكن لتفعيل معايير عالية من المحاسبة والمساءلة، عبر إعلان أهدافنا وخططنا ومؤشرات قياس أدائنا ومدى نجاحنا في تنفيذها للجميع، وسنعمل كذلك على توسيع نطاق الخدمات الإلكترونية وتحسين معايير الحوكمة بما سيحد من التأخير في تنفيذ الأعمال، وتحقيق هدفنا في أن نقود العالم في مجال التعاملات الإلكترونية).
الرؤية في مقدمة أهدافها محاربة الفساد والمحسوبية، ولذا فإنه مع تفشي مرض المحسوبية لحق ضررها الجهاز الإداري والمالي فانخفض الأداء وعم الشعور باليأس لدى الكثيرين بسبب قلة عطاء من تسلقوا السلم الوظيفي بالمحسوبية التي تغرس في النفوس التجزئة والاختلاف داخل الكيان الإداري فتجهض كل عمل جاد وخلاق وترتفع هامة من هم أقل قدرة وكفاءة بسبب مرض المحسوبية الذي بلغ شأناً كبيراً من الاستشراء حتى خيل لأصحابها أنها عمل خير وتوجه سديد فبرزت للعيان في داخل الجهاز الإداري بكل فئاته وإن كان وضوحها في بعض الجهات أكثر بشكل صارخ يهدم معه مصلحة المواطن وتختزل حقوقه الطبيعية فيشعر بالإحباط واليأس والتذمر، وهو يلعق طعم الظلم الإداري والمالي على أيدي أناس لايعرفون معنى العدل والمساواة، ولا الإنصاف ويقول تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ} إبراهيم 42.
ويقول تبارك وتعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} الشعراء 227، ومثل هؤلاء المخاطبين بالآيات الكريمة عميت قلوبهم ومات ضميرهم فلا يعرفون معنى الأمانة التي حملها الله الإنسان فحملها بعد أن أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها فحملها الإنسان الضعيف لأنه كان ظلوماً جهولاً. إن من يتدبر الآيات القرآنية الكريمة يتضح منها أنه كلما كان للفاسد مسؤولية كان الفساد أشد وقعاً على الناس، إذ إن من أشد دوافع الفساد وبواعثه طلب العلو في الأرض بغير حق، فالله سبحانه وتعالى نهى عن الفساد في الأرض بعد إصلاحها، كما نهى عن سلوك طريق المفسدين واتخاذ وسائلهم وتوعدهم الله بالعذاب الشديد والخسران الأكيد عاجلاً وآجلاً فالله جلّت قدرته لا يخفى عليه عمل الفاسدين وإن زعموا أو بانوا نفاقاً أنهم من القوم المصلحين والله سبحانه وتعالى توعد هؤلاء الفسدة بأن ينزلهم المنزلة التي يستحقونها من الخزي والهوان بقدر ما أفسدوه قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} الأعراف 56. وقال تعالى: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ} الشعراء 183، وقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} الأعراف 42، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} الرعد 25.
وعندما علم بعض الصحابة -رضي الله عنهم- عقوبة أخذ المال الحرام سواء من المال العام أم من عامة الناس استعفوا من الولاية واعتذروا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قبولها لخوفهم - على رغم قوة إيمانهم - أن يلحقهم بعض من الغلول فقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- عذرهم ومنهم أبو مسعود الأنصاري الذي قال: (بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ساعياً ثم قال: انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة تجيء على ظهرك ببعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته، قال إذاً لا أنطلق، قال عليه الصلاة والسلام: إذاً، لا أكرهك) رواه أبو داود. إن الفساد مصدره الأنانية وحب النفس، وأنه يبدأ صغيراً ثم يكبر.وأن الفساد خلل في الدين، وانحطاط في الأخلاق.
وأن الفساد لا يراعي وشيجة قرابة ولا أواصر رحم ولا صلة صداقة.
وأن الفساد ظلم صراح لا شك في ذلك.
وأن المفسد مهما تمتع بثمرات فساده فإن عاقبته تكون وخيمة ونهايته رديئة، وإنما يحيق المكر السيئ بأهله.
وديننا الحنيف حذر من كل أنواع الفساد، وبين النهايات الوخيمة للمفسدين، وأوضح أن الظلم نهايته الضياع والهلاك، إن كان للأفراد أو للأمم أو لدول، وفي الأثر: (إن الله يقيم دولة الكفر على العدل ولا يقيم دولة الإيمان على الظلم)، والظلم كما أسلفنا هو أساس الفساد وعموده، فالمفسد إنما يمارس ظلماً صراحاً، عندما يمارس فساده من رشوة ومحسوبية وغيرهما من مظاهر الفساد.
إذاً الفساد محرم في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بكل صوره.
ولا شك أن الرؤية أخذت على عاتقها تنفيذ الأمر الملكي نصاً وروحاً، ونصت صراحة على مكافحة الفساد وتطبيق مبدأ الشفافية الذي فيه دعم للاقتصاد والتنمية المستدامة. ولا شك أيضاً أن محاربة هذا الداء الخطير طريقه طويل ومليء بالأشواك، ولكنه أحسن بكثير من ترك الفساد يستشري فمرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.
وفي المملكة العربية السعودية بالفعل بدأت بخطوات جريئة وبعقوبات رادعة لأن العقوبة رحمة.
هذا لأن الفساد ظلم بواح وطمع في ملك الغير، المال العام، الذي أوكل إلى الفاسد حراسته والحرص عليه على سبيل الأمانة قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} الأحزاب 72.
والله ولي التوفيق.
***
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة