أحمد المغلوث
عدت من سوق البرسيم «الجت» بمدينتي حاملا على رأسي الصغير ربطات البرسيم. متجها لبيتنا وخلال سيري سمعت صوت أذان العصر. فتوجهت إلى الجامع الذي يقع أمام سوق «قيصرية» المبرز خطوات وإذا بي أمام بوابة الجامع الكبير وضعت ما أحمله بجانب البوابة ووضعت حذائي عليها واتجهت لمكان الوضوء وطغى علي شعور مفعم بالسعادة، فلقد شاهدت أكثر من شخص أعرفه وكل منا يحيي الآخر. فهذا صاحب مكتبه بالقيصرية. وذاك معلم بالمدرسة الأولى التي تقع خلف السوق، أما أبو سعد فهو جارنا. كان الجامع وهو اسم على مسمى كان جامعا لأبناء المدينة من الطائفة السنية، أما أبناء الطائفة الشيعية فلهم مساجدهم «الحسينيات» ولكن بعض بيوت المدينة والمحاطة بسور عملاق يحيطها من الجهات الأربع ولكل جهة بوابتها الشهيرة.. وكثير من البيوت كانت تشترك في «جليب» بئر ماء واحد يفصل بينها جدار لا يمكن لمن يريد أو تريد «سحب» الماء من الجليب أن يشاهد الآخر خلال هذه العملية.. ومع هذا كانت الجارات أكثر تواصلا من خلال تبادل بعض الأطباق من تحت الجدار الفاصل في الجليب أو عندما تحتاج لشيء ما ينقصها لإعداد وجبة طعام أسرتها. فتسارع للتوجه إلى غرفة «الجليب حاملة هاونا صغيرا وضاربة بيد الهاون عدة ضربات داعية جارتها لمساعدتها، فهي بحاجة لعلبة «صلصة» أو قليل من السكر. وهكذا كان ذلك في زمن كانت ظروف الحياة فيها صعبة. خاصة أن كثيرا من أبناء المدينة يعملون خارجها في مدن النفط ولا يعودون إلا بعد أيام وهناك من يعود للمدينة بعد شهر. ونسبة كبيرة من سكانها يمارسون أعمالهم في الزراعة والتجارة والأعمال الحرة. ومع هذا كانت تجمعهم داخل المنطقة العلاقات الطيبة والمودة والإحساس بروح الجماعة واعتزازهم بوطنهم. خرجت من الجامع بعد الصلاة وحملت «الجت» على رأسي وتوجهت إلى بيتنا الذي لا يبعد عن الجامع إلا مسافة قصيرة. دخلت البيت وإذا بوالدتي -رحمها الله- تردد باسمة وهي جالسة في رواق البيت: عافيه عليك يا ولدي. كانت لحظتها تعد القهوة بجانب «الوجاق» وإعداد القهوة عمل روتيني تقوم به كل ربة بيت. أما في مجلس البيت فإعداده يقوم به صاحب المجلس أو الصبي أو الخادم وفي البادية إعدادها من عمل الرجال.. توجهت لحوش الغنم. وقمت بنثر «الجت في أكثر من جهة فالحوش كان فيه بقرة وثلاث عنزات وتيس وعدد من الدجاجات وديك.. ورغم أني كنت في ذلك الوقت في الثانية عشرة من عمري إلا أني كنت مكلفا ببعض المهافي خدمة بيتنا خاصة ووالدي -رحمه الله- يعمل خارج المدينة فهو رجل أعمال، إضافة لسفر بعض من أشقائي إلى الدمام لبيت خالتي. وكنت بالتالي أحرص على تواجدي في بيتنا لأمارس هواياتي التي أحب من قراءة ورسم. عدت من «الحوش» واتجهت إلى «جليب» البيت لاغتسل قمت بذلك سريعا وأنا جذل نشفت شعري ولبست طاقيتي في شوق شديد للقراءة، جلست في الرواق وسحبت من تحت «الدوشق» مجلتي المفضلة تلك الأيام «سندباد» ورحت أطالع مواضيعها ورسومها بشغف واهتمام كبيرين. فجأة سمعنا أنا ووالدتي صوت ارتطام وحركة مزعجة تأتي من «حوش الغنم» أشرت بيدي لوالدتي وأنا أقول لها سوف أذهب وآتـيك بالخبر
اليقين. توجهت سريعا إلى «الحوش» وإذا بالتيس مرمي على الأرض ويبدو أنه تعرض لرفسة قوية من البقرة، إصابته إصابة مميتة. فمن غير المعقول أن تتعرض له بالأذى إحدى العنزات فهو زوجها الوحيد فالعنزة تخاف على تيسها..؟! وحتى اليوم وبعد عقود لم أعرف السبب الحقيقي وراء ذلك.؟!