د. يعقوب بن يوسف العنقري
من الأمور المهمة التي ينبغي العناية بها، وهي أنه واجب على العلماء عدم السكوت عن بيان حقيقة أهل الأهواء من السروريين والإخوانيين وغيرهم ممن يتدثرون بدثار الدعوة والعقيدة وغيرها، ويُلبِسونَ على الناس في أمر اجتماعهم على ولاة أمورهم، فتجدهم في قضايا الإمامة يبدؤون بالتأويل والمراوغة عن النصوص الشرعية الدالة على وجوب الالتزام بجماعة المسلمين وإمامهم، والسمع والطاعة لولاة الأمور، وترك الخروج عليهم بالقول والفعل، والالتزام بالأنظمة التي يسنها ولاة الأمور وعدم مخالفتها ونحو ذلك، ويجعلون لأنفسهم أعذاراً واهية يوهمون بها أنفسهم وغيرهم.
ولنا أسوة وقدوة في تعامل علماء السلف مع الفتن التي ظهرت في وقتهم، وعنايتهم بالمسؤولية الشرعية والمجتمعية عليهم، فقد قاموا ببيان المنهج الصحيح في التعامل مع ولاة الأمور، والنصح والإنكار على كل من خالف في هذا الباب حتى لو كان من المنتسبين للعلم، وبيان خطأ موقفه وصنيعه ذلك.
وقد كان الصحابي عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- من علماء الصحابة الذين عاصروا الفتن، والتزم بالمنهج الشرعي في البيعة لمن ولاه الله أمر المسلمين، وعدم منازعتهم في هذا الأمر، وكان يواجه من ينكرون عليه ويبين أن منازعتهم لولاة الأمر ليس لأجل الدين -كما يدعون- وإنما طمعاً في الدنيا والرياسة، كما في الحديث: عن ابن عمر قال: (أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس قد ضيعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي...) إلى أن قال: (وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله).
كذلك فابن عمر -رضي الله عنه- ذهب مناصحاً لعبدالله بن مطيع القرشي ومنكراً عليه، وقد كان ابن مطيع داعية الثورة التي قامت في زمن يزيد بن معاوية، وقام ابن مطيع ومن معه بنقض البيعة ليزيد بن معاوية وأظهروا الخروج عليه، ولم تكن رواية عبدالله بن مطيع للحديث مانعاً للصحابي عبدالله بن عمر من الحزم معه والإنكار عليه، بل إن ابن عمر لم يرض بالجلوس إليه؛ إشعاراً بشناعة المنكر الذي فعله وهو الخروج على ولي أمر المسلمين وقتاله، كما في صحيح مسلم (جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوله: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية).
كذلك نجد الحسن البصري كان في تعامله ومنهجه مع الفتن التي كانت في زمنه كابن عمر، فكان يناصح وينكر على الذين خرجوا مع الخارجي ابن الأشعث، ويظهر إنكاره للناس وتعجبه من بعض العلماء ممن أيدوا صاحب هذه الفتنة في الخروج على الحجاج.
روى أيوب السختياني قال: قال الحسن البصري: (ألا تعجب من سعيد بن جبير، دخل يسألني عن قتال الحجاج، ومعه بعض الرؤساء من أصحاب ابن الأشعث).
بل إن الحسن البصري طبق إنكاره العملي على أهل الأهواء لما أكرهه ابن الأشعث بالقوة على الخروج معه؛ ليغري ابن الأشعث الناس باتباعه في الفتنة، فلم يتعذر الحسن بالإكراه وسعى إلى مفارقته. روى عبدالله بن عوف قال: (استبطأ الناس أيام ابن الأشعث فقالوا له: أخرج هذا الشيخ -يعني الحسن- قال ابن عون: فنظرت إليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء، قال: فغفلوا عنه، فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم وكاد يهلك يومئذ).