د. محمد بن إبراهيم الملحم
مؤخراً كنت أبحث في مقاطع الفيديو التي يعملها بعض المعلمين أو الممارسين التربويين حول تجاربهم ونجاحاتهم، وبخاصة معلمو العلوم والفيزياء، حيث تخصصي، وقد مررت أثناء هذه الرحلة على مقطع لمعلم أمريكي يتحدث في إحدى منصات المتحدثين (المسماة TED X)، حيث كان حديثه منصباً على أن المعلم يمكنه أن يصنع أشياء عظيمة إذا تمكن من إلهام طلابه وإعطائهم الثقة العالية في أنفسهم، وهو محق تماماً في ذلك من الناحية النظرية والتطبيقية ولكن لما بدأ يستعرض أمثلة لما حققه مع طلابه أصابتني صدمة، فهو لم يقدم نماذج مما تعودنا سماعه، بل راح يستعرض صور طلابه وهم في زيارات لمؤسسات كبيرة مثل ناسا، ثم عرض ابتكارين لطالبين من طلابه تم تسجيلهما كبراءات اختراع مهمة، بل إن أحدهم باتت ناسا تستخدمه! اللهم لا حسد، ولكن ولكي نكون في نطاق المنطق المعقول فإن مثل هذه الأمثلة «الجميلة» و»المتطرفة» ليست ملهمة في واقع الأمر بقدر ما هي صادمة، فيمكنك أن تتوقع أن هذا المعلم يعمل في مدرسة أهلية خاصة ذات مكانة مرموقة ووصول عال إلى مؤسسات راقية مثل ناسا، كما أنها تتمتع بميزانيات عالية تمكنها من تقديم أدوات وإمكانيات تقنية عالية تمكن الطلاب من ابتكارات مميزة مثل تلك، ولا ننس أيضاً أن من يلتحقون بمثل تلك المدارس هم أبناء نخبة وغالباً ما تتوافر لديهم سمات ذكاء وألمعية خاصة. إذن خلاصة هذا الأمر أن المعلم الذي كان يتحدث ويحاول أن يستنهض همم المعلمين المستمعين إليه سواء في المسرح أو عبر المقطع الذي سينتشر عبر العالم هو ببساطة معلم «محظوظ» إذ تواجد في مثل هذه المدرسة وتوفرت له هذه الظروف، وهو في الواقع لم يتحدث عنها أو يشرح إمكانياتها وفرصها التي توفرت له (أو حتى الفرص المتوفرة له شخصياً إن لم تكن المدرسة نفسها) ولكنه اكتفى بعرض بطولاته التدريسية ليحفز زملاءه المعلمين في المدارس الأخرى عبر العالم. وفي الواقع ولو كنت أنا شخصياً مكانه لما اخترت هذين الطالبين مثالاً أستشهد به على إنجازي ولاخترت طلاباً آخرين حققوا معي إنجازات أرى أنها ستكون واقعية في حكم بقية المدارس أو باقي المعلمين الذين لا تتوفر لهم مثل ظروفي «المحظوظة» وذلك لأحقق هدفي الأساس من تلك الكلمة «الملهمة» ويحصل التحفيز والتشجيع المطلوب لكل الناس.
مثل هذه الحالة تتكرر حتى من غير المعلمين فكثيراً ما يخفي المحفزون والملهمون في مثل هذه الكلمات مميزات ساعدتهم كثيراً وكانوا محظوظين بالحصول عليها ولكن ما يهمني من هذه القصة هي أن أشير إلى أن حالة الحظ هذه لها درجات فعلى الرغم من أن الحظ الذي ذكرناه آنفاً متطرف، إلا أن هناك معلمين يتوفر لهم حظ جيد في تواجدهم في مدرسة حكومية مثلاً مجهزة بأحدث التجهيزات وبها الكثير من الوسائل المساعدة على تقديم الدروس بطرق مشوقة، وكذلك توفر معامل ممتازة توفرت فيها كل الأجهزة والمواد وهؤلاء المعلمين المحظوظون جداً عندما نقارنهم بعدد كبير من زملائهم المعلمين في مدارس أخرى أو مناطق أخرى لم تتوفر لهم نصف هذه الإمكانيات لأسباب متنوعة، ومع ذلك نجد عدداً من هؤلاء المعلمين المحظوظين بتلك الإمكانيات لا يفعلونها كما ينبغي وينظر كثير منهم إلى هذه المسألة أنهم سيبذلون جهداً إضافياً لا يبذله زملاؤهم الذين لم تتوفر لهم هذه الإمكانيات! وهي مغالطة منطقية صريحة، إذ قلبوا المعادلة وجعلوا الحالة الاستثنائية (أي عدم توفر الإمكانيات) هي الأصل في تأدية الدور التدريسي بينما في واقع الأمر أن حالتهم هم هي الأصل وهي المقياس المعياري الذي يعبر عن المدرسة في صورتها الطبيعية، ولا شك أن مصدر مثل هذه المغالطة هو تراجع الضمير الإنساني والتربوي معاً وغياب الأمانة الوظيفية، وإلا فالإنسان مطالب أن يقوم بواجبه خير قيام دونما نظر إلى اعتبارات أخرى يبرر بها إمكانية تخليه عن هذه المهمة أو شيء منها ويخفف عن كاهله عبء هذا الواجب فيستريح ويغنم الراحة، والمعلم عليه واجب أكبر يتمثَّل في قيامه بالرسالة التربوية التي أؤتمن فيها على فهم واستيعاب طلابه (وطالباتها) فيؤدي لهم أفضل ما عنده ويقوم لهم بأعظم الجهد ويخلص في تأدية عمله لأجلهم ولأجل مستقبلهم. وإن المعلم المحظوظ الذي يفعِّل كل ما تحت يده من الإمكانات هو معلم مخلص وموظف أمين يستحق أن يرفع له العقال وسيجد ثمرة هذا الإخلاص في حسن فهم طلابه لموضوعات مادته وإتقانهم للعلم، الأمر الذي سينعكس على مستقبلهم الباهر لمصلحتهم ومصلحة بلادهم التي تضع آمالها عليهم، ولن يكون ذلك إلا بفضل معلمهم المحظوظ «المخلص».