نجلاء العتيبي
قابلتها بعد زمن طويل، كلانا تغيَّر. نظرتُ إليها، ورغم أن ملامحها لم تعُد كما كانت، شعرتُ أن التغيُّر الحقيقي لم يكن في الخارج فقط، بل في العمق، في الداخل حيث تُصقل النفوس.
«هل هي نفسُها؟» سألت نفسي وأنا أراقبها.
لا، ليست كما كانت. لكن، هل أنا كما كنتُ؟»
المنعطفات التي تُغيِّر الإنسان ليست مجرد محطات زمنية عابرة، بل هي لحظات حاسمة تصوغ كيان الفرد من جديد، تُعيد تشكيل رؤيته للعالم، وترتيب قيمه وأولوياته، الإنسان بطبيعته يتأثَّر بالمواقف التي يمرُّ بها، ولكن هناك لحظات خاصة تُشكِّل انقلابًا داخليًّا، تحولًا جذريًّا في تفكيره وسلوكه، تدفعه للتغيير، سواءٌ أراد ذلك أم لم يُرد. عندما يواجه الإنسانُ تحدياتٍ غير متوقَّعة، يجد نفسه أمام مُفترق طرقٍ، هذه التحديات قد تكون صعبة ومُربكة، مثل فقدان شخص عزيز، أو التعرُّض لخسارة كبيرة، أو حتى مواجهة مرض مفاجئ، كل واحدة من هذه التجارب تُحدِث في النفس هزّة قوية، تجعل الإنسان يتأمَّل ذاته من جديد، ويعيد حساباته، قد يشعر أن ما كان يعتبره ثابتًا أو مستدامًا لم يعُد كذلك، وأن الحياة تحمل في طيَّاتها تغييرات مفاجئة يجب التأقلم معها، وهنا يظهر الدور الحاسم للمرونة الفكرية، والقدرة على التكيف مع المتغيرات. لكن المنعطفات ليست كلها سلبية أو مأساوية، هناك أيضًا لحظات تحوُّل إيجابية، هذه اللحظات قد تفتح أمام الإنسان آفاقًا جديدة، وتُخرج إمكانيات كانت كامنةً في داخله، في هذه اللحظات، يكتشف الإنسانُ قدراته الفعلية، ويرى نفسه من زاوية أخرى، مختلفة عن الصورة التي كان يراها سابقًا، فالتحوُّلات الإيجابية تجعل الإنسان يدرك أن العالم مليءٌ بالفرص، وأنه قادرٌ على تحقيق أشياء لم يكن يتخيلها.
غير أن التغيير لا يحدث دائمًا بشكل مفاجئ، في بعض الأحيان، يكون التغيير نتيجةً لتراكمات صغيرة على مرِّ الزمن، قرارات يومية بسيطة، تفضيلات جديدة، أو حتى عادات تُكتسب تدريجيًّا، هذه التراكمات تُشكل تدريجيًّا إنسانًا جديدًا، دون أن يلاحظ أنه قد تغيَّر حتى يلتفت إلى الماضي، ويدرك الفرق، هذه اللحظات الدقيقة تُظهر كيف أن الحياة تتكوَّن من تفاصيل قد تكون صغيرة لكنها تحمل تأثيرًا عميقًا على مساره.
المنعطفات أيضًا تتجاوز الفرد لتشمل المجتمع بأسره، فالتغيرات تترك بصماتها على الإنسان، عند حدوث الأزمات يتأثَّر بشكل مباشر أو غير مباشر، فيُعيد ترتيب قناعاته وأولوياته بناءً على الواقع الجديد، هذه التجارب الجماعية تُذكِّر الإنسان أنه جزء من منظومة أكبر، وأن ما يحدث حوله ينعكس عليه، وعلى مسيرته الشخصية.
الأهم في هذه المنعطفات ليس فقط تأثيرها اللحظي، بل كيف يختار الإنسان أن يتعامل معها، فالبعض قد يختار الإنكار، فيغلق على نفسه، ويحاول التمسُّك بما هو مألوف، بينما البعض الآخر يرى فيها فرصًا للنمو والتطور، فالقدرة على النظر إلى التغيرات على أنها جزء طبيعي من الحياة، وأن كل منعطف يحمل في طياته درسًا أو فرصة، هو ما يُميِّز الأفراد الذين يتجاوزون الصعاب بنجاح، ويواصلون مسيرتهم بثقةٍ.
المنعطفات هي التي تصنع الشخصية، فهي ليست مجرد تجارب تمرُّ وتنتهي، بل هي تلك اللحظات التي تُظهر للإنسان حقيقته، وتجعله أكثر وعيًا بما حوله وما داخله، كل منعطف يضيف بُعدًا جديدًا للحياة، ويمنح الإنسان فرصةً؛ ليعيد اكتشاف نفسه بطرقٍ لم يكن يتوقَّعها.
ضوء
«إذا الأمس لم يرجع فإن لنا غدًا
نضيء به الدنيا ونملأها حمدًا»
- إيليا أبو ماضي