د.نادية هناوي
تؤكد مونيكا فلودرنك أن السرد بضمير المخاطب نمط مهمل، وترى أن بداية استعماله تعود إلى أوائل القرن الثالث عشر، وأقدم نموذج له هو «أسطورة القديس جايل» ليدجيت واعترافات القديس أوغسطين. وفيها يستعمل ضمير المخاطب في الدعاء والتوسل والوعظ. وحددت فلودرنك نماذج أخرى قليلة ظهرت في القرن السابع مثل «ساعة العشاق» لأفرا بيهن و»الاقتصادات الملكية» لماكسيميليان دي بيثون. وفي القرن التاسع عشر، كانت قصة هوثورن «العقل المسكون» أول حالة «حقيقية» بحسب فلودرنك لنص بضمير المخاطب بالمعنى الحديث.
وتعرِّف السرد بضمير المخاطب تعريفا أوليا بأنه (السرد الذي يشير إلى بطل رئيس عن طريق استعمال أنت عادة وبمستوى تواصل واضح فيه يكون السارد (المتكلم) يروي بكثير من الحكمة قصة الأنت الموجود في الزمن الحاضر غائبًا أو ميتًا وبما يكسب المسرود له ماضيًا خياليًا من خلال السرد الجاري حدوثه)
وتجد فلودرنك في السرد بضمير المخاطب تعارضا مع مفاهيم الواقعية، يماشي أكثر أنواع السرد غير الطبيعية لأن المتحدثين لا يحكون عادةً تجاربهم الخاصة للسارد بضمير المخاطب لا في الحاضر ولا في الماضي. وبالاستناد الى ذاك التعارض صاغت فلودرنك مفهوم ( المعارضة الثنائية) أي معارضة السرد المثلي للسرد الغيري ف» أنت» ليست مجرد سمة نحوية في النصوص الخيالية أو الرسائلية ونصوص المونولوج الدرامي التي حظيت باهتمام كبير.
وحاولت فلودرنك في دراستها (السرد بضمير المخاطب بوصفه حالة اختبار لعلم السرد في حدوده الواقعية) استكمال التنظير الذي وضعه الناقد الالماني ستانزال حول السرد بضمير المخاطب من ناحية حضور السارد والشخصية داخل النص من جهة وموافقة أو معاكسة مفاهيم جينيت حول المنظور والتبئير والسرد مثلي أو غيري القصة من جهة أخرى. هذا إلى جانب الأخذ بتنظيرات الامريكية آن بانفيلد حول الإشارات اللغوية في كتابها ( الكلام والفكر الممثل للجمل التي لا توصف).
وحددت فلودرنك مسعاها من وراء ما تقدم في ثلاث مسائل ذات صلة بضمير المخاطب.
المسألة الأولى هي إعادة تصنيف السرد بضمير المخاطب الذي كانت قد طرحته في كتابها ( السرد بضمير المخاطب) واضعة تصورا بينيا يجمع بين النموذجين الجينيتي والستانزيلي، والمسألة الثانية هي أن السرد بضمير المخاطب لا يرتبط بـ «موقف سردي» محدد. والمسألة الثالثة تتعلق بوظيفة السرد بضمير المخاطب لاسيما فيما يتعلق بالوضع التاريخي للخطاب بضمير الـ» أنت» بوصفه أسلوبًا ما بعد حداثي ونوعا نموذجيا من الكتابة التي تعيدنا إلى محاولات براين ريتشاردسون في السرد غير الطبيعي، وكل ما يخالف السرد التقليدي وكذلك السرد الحداثي الذي فيه يكون توظيف ضمير المخاطب خاضعا للنظر الأيديولوجي.
واذا كان التنظير لاستعمال ضمير المخاطب مرتهن بالعموم بتيار الوعي الذي برع في توظيفه مجموعة كتاب منهم جيمس جويس، فإن فلودرنك لا ترى الأمر كذلك، إذ في تيار الوعي يكون السارد بضمير المخاطب في موقعين: الأول هو أنا والآخر هو أنت، فلا يمكنك من ثم الإشارة إلى هذا السارد إلا في المواضع التي فيها تنقسم الذات إلى صوتين «الأنا» و»الأنت» يتفاعلان حواريا.
وليس السارد بضمير أنا كالسارد بضمير أنت، لأن الأخير وبسبب الزمانية المضارع يفقد قدرًا كبيرًا من صفاته السردية والتعبيرية فمثلا جملة «أنت تمشي في الشارع» فيها للسارد تأثير مخصوص على المرسل إليه الذي يصعب عليه بناء سيناريو واقعي ينطبق على وضعه المباشر. ومن ثم يكون واجبا عليه أن يبني سيناريوهات متخيلة خاصة بطبيعته.
ما تريد فلودرنك الوصول إليه هو أنها ترى في السرد بضمير المخاطب لا واقعية من ناحية توظيف الزمانية المضارعة التي فيها يتزامن حضور السارد مع حضور الشخصية على قدم المساواة بعكس ما يراه غيرها في هذا التزامن من واقعية كما في نظريات جينيت وستانزل وسيمور تشاتمان وميك بال وجيرالد برنس وشلوميث ريمون كنعان وهيلمت بونهام وسوزان لانسر.
واستدركت فلودرنك على ما تقدم بالقول:(لا يعني هذا أن هذه النظريات لا تستطيع التعامل مع الانزياحات عن الوضع الواقعي؛ بل العكس من ذلك، يمكنها بسهولة تصنيف أنواع الكتابة الخيالية وما بعد الحداثية المخالفة للقواعد المتبعة في السرد الواقعي. وهذا ليس بالضرورة نقطة انتقاد: فأغلبية النصوص تعمل على أسس واقعية، ولذا يكون من المهم إعادة تحليلها، لا بالتخلي الكامل عن المعايير الواقعية، بل بدمج هذه المعايير ضمن نموذج نظري شامل يمكنه التعامل مع الحالة الواقعية بوصفها نموذجا. وسأحاول توجيه مثل هذا النموذج النظري الجديد باتجاه علم السرد الطبيعي)
«النص بترجمتي»
أما ما ذهب إليه سيمور تشاتمان من أن القصة غير الخطاب، وأن السرد عبارة عن ثنائية قصة/ خطاب، فإن لفلودرنك رؤية أخرى مفادها أن السرد قصة يمثلها وسيط سردي هو الخطاب. وسواء كان هذا الخطاب سينمائيا أو دراميا، تغدو إعاد ة ترتيب التسلسل الزمني للقصة معتمدة على التبئير والصوت والشخصية وغيرها. وقد تبدو هذه القصة غير طبيعية من ناحية تصميمها، حين تحكي قصة المسرود له أو المرسل إليه ومن ثم تنشأ فجوة تفاضلية أساسية بين القصة والخطاب بالضمير أنت، فيكون القارئ الحقيقي داخل العالم النصي مشاركا السارد التجربة بوصفه هو المخاطب بـ»أنت» وهذا ما يجعل الكتابة بضمير المخاطب نوعا يناهض وبشكل جذري الواقع ويخالفه. مما يجعل السرد بضمير المخاطب الأكثر تطرفًا – بتعبير فلودرنك - في خرق المستويات السردية وتغيير طبيعة أدوار القارئ المعتادة.
إن دفاع فلودرنك عن هذا السرد يأتي من كونه أداة ما بعد حداثية، تعتمد لعبة اللغة الانعكاسية الذاتية وتشجع على كتابة النصوص التجريبية، وفي هذا الدليل على حيوية وأهمية السرد بضمير المخاطب.