سهام القحطاني
يوثق كتاب «أصداء.. تلقي الكتاب والمبدعون لفكر الدكتور عبدالله الغذامي» برعاية كل من «الأستاذ عبدالعزيز النصافي والأستاذة رحمة القرشي» آراء الكتاب في التجربة الفكرية لأستاذنا المفكر الجليل الغذامي وفق مسارات مختلفة، لكنها تجتمع حول مبدأ موحد وهو «أن الغذامي كان «غيرا» عن جيله ومن سبقه، وظل «غيرا» عن الأجيال التي جاءت بعده، وسيظل «غيرا» عن الأجيال التي ستأتي بعده».
فلماذا الغذامي «غير»؟.
أن تكون غيرا هي طبيعة أولا ثم قرارا ثانيا؛ وكأن بعض البشر خلقوا ليصبحوا غيرا عن عمومهم، وبعد ذلك تصقل تلك الغيرية أو الاختلاف من خلال المعرفة والمواقف والإضافات لتحقق «الضبط التعريفي للغيرية -الاختلاف- في مسارها الحيوي»؛ وأقصد الإدراك التنفيذي بأنني «غير أو مختلف».
ومن نافلة القول هنا بأن إدراكنا أننا غير أو مختلفون عن «العموم» أو أن أحدنا غير ومختلف عن «العموم» ليس تقديرا وجدانيا بل هو حكم معياري يخضع لمقاييس، تحسب وفق الذات والآخر والإنتاج والإضافة والزمن.
فالمسألة ها هنا هي مسألة مسطرة موضوعية تنفض عنها أي وجدانية.
فإن تكون غيرا، هي ثنائية تزامنية تقاس بقدرة وعيك بأن ذاتك هي غير مقارنة بالآخر، وهذه التزامنية لا تتحقق إلا بموقفك من التقليد والتجديد.
فالتقليد في مستوياته المختلفة -وأنا أقصد التقليدي المعرفي- هو اختباء للذات داخل الآخر، وهو ما يعني انتفاء أن تكون غيرا بمقياس الآخر سواء في جزيئته؛ بالنسبة للأنا مقابل الأنا المشابهة لها، أو كليته؛ بالنسبة للأنا مقابل الأجنبي عنها.
فالإيمان «بمسكوكات المعرفة» لا تخلق مفكرا، وكم قضت على نهضة! و»المردد لتلك المسكوكية المعرفية لفكر الآخرين» التهمه الظل في نهاية المطاف، فأصبح صحراء بلا ماء ولا شجر.
وهنا يبرز الغذامي كنموذج للمفكر الذي رسخ منذ البدء انطلاقا من كتاب «الخطيئة والتكفير» منهج «أنا غير» خارج أي مسكوكات تقليدية، وهو إقرار رسخه خصومه قبل حلفائه.
فلماذا الغذامي غير؟
لأنه قفز فوق المعرفة المسكوكة التي استعبدت جيله وما بعد جيله، فما يميز المفكر الخالد من دونه أن يملك «رأيا ورؤية» في المعرفة؛ والرأي القدرة على الكشف والتحليل، أما الرؤية فهي القدرة على دوام الإضافة، فمنذ «كتاب الخطيئة والتكفير» حتى اليوم يدهشنا الغذامي بقراءة فكرية مختلفة لمعرفة ألفنا طقسها، فدوما يوجهنا بدهشة إلى زوايا جديدة لمعرفة قديمة، ومن يقرأ للغذامي سيكتشف قدرته على التدوير والاستثمار المعرفي لتطبيقات فكرية متداولة، وبذلك يعد الغذامي رائدا على المستوى العربي في هذا المجال «واقعية الفكر الثقافي».
لماذا الغذامي غير؟
لأنه يملك القدرة على تجديد منهجه وأسلوبه الفكريين، وهذا التواضع المعرفي الذي يقدم لنا الغذامي من خلاله درسا؛ بأن المفكر الخالد مهما وصل من علو معرفي فما زال فضاء المعرفة أعلى وأعلى، فالغذامي يعلمنا بأن «لا قمة للمعرفة» بل هو علو متصاعد في فضاء بلا سقف، وهذا التفكير هو الذي حمى الغذامي من «نرجسية الكمال المعرفي».
لماذا الغذامي غير؟
لأنه استطاع أن يصبح سردية جدلية ثقافية من خلال خصومه وحلفائه؛ فقيمة المفكر الخالد ليست أن يتفق الجميع عليه، ولو كان الأمر كذلك لأصبح قالبا، لكن القيمة الحقيقية للمفكر الخالد هي بمقدار ما تحيطه من حيوية من الخلاف والاختلاف وتحوله «إلى سردية جدلية ثقافية» محفزة لجذب الحوار والتغير والإضافة.
لماذا الغذامي غير؟
لأنه تصالح مع خصومه، فتركهم لشأنهم، يقولون ما يقولون، وكأن لسان حاله يتفق مع مقولة الشافعي «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
وهذا منعطف آخر مشتق من ذلك المبدأ؛ وهو إيمان الغذامي بأن «لا صواب ولا خطأ « في المعرفة، بل الحجة هي التي تتحكم في تقدير الفرد والجماعة لمؤشر الصواب والخطأ هي التي تخلق إيمان المعرفة.
هذا الرقي الآمن مع فكره، أوصله إلى قناعة المتنبي
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم.
وإن كان المتنبي قال هذا البيت استخفافا بخصومه، فنحن نشير إليه ونربطه بالغذامي، ليس استخفافا بخصومه إنما إيمانا بأهمية الاختلاف والخلاف الثقافيين في نضوج تجربة الغذامي، وإيمانا بمبدأ إذا كنت تملك فكرا غيريا لا يعني أنك في دائرة اتهام تقضي وقتك في الدفاع عن نفسك.
لماذا الغذامي غير؟
لأنه يملك استراتيجية منهجية لفكره تمنحه القدرة على قابلية الإضافة، وهذا منهج يمنح فكر الغذامي حيوية مستمرة ملهمة للاكتشاف لكل متابعيه من الحلفاء أو الخصوم.
لماذا الغذامي غير؟
لأنه فوق الصلاحية الزمنية، فالزمن أكبر عدو للمثقف لأنه يلتهمه في ظل النسيان، لكن المفكر الخالد هو الذي يتحدى الزمن وجبروت ظل النسيان؛ ليظل عصيا على أي تاريخ مزمن لصلاحيته.
وجزيل الشكر للأستاذين: عبدالعزيز النصافي ورحمة القرشي، على تقديمهما لوثيقة الحب والتقدير لمفكرنا الجليل الدكتور الغذامي.