د. شاهر النهاري
أنا أعزف، إذاً أنا حي، ويستمر صدى أنغامي، حتى لو ترجلت عن كبسولتي، وسط مجاميع البشر السائرين المتنفسين، الشاربين المتغذين الحريصين في هنيهات خواطرهم على مداعبة أوتار الحياة، وتنزيه صور النفس عن مواطن النشاز.
أنا عازف بالهواية، لم أمسك يوما آلة موسيقية، إلا من جانب الإعجاب والتجربة، وخيالات أن أكون مُصدرا للنغمات، أشيع ألحان العذوبة والشجن والوجد والفرح والمرح، رغم بدائية ما أفعل بالأوتار.
أنا عازف لم أتعلم العزف بمدارس وأكاديميات، ولم أصطف وسط أوركسترا أو جوقة أو تخت أحاول مسايرة حركات من يعزفون فيه، عيني على أوتارهم، وقلبي على حسهم، ويدي تحاول التحرك بنفس اتجاه صعود أيديهم ونزولها، كي لا يختلف اللحن، ولا تتضح تهمة الخروق من جانبي.
عازف أحب الرصانة، وأحن للحن الجذاب القويم، يعصر ما بين الأضلاع، ويجعل العين تطير في الآفاق، وتغمض جفنها لحظات علها تستوعب لذة العذوبة، وتتكامل لسانا وهزة وخطوة رشيقة منغمة، فأستمتع كثيراً بأروع الغناء، لأن الغناء سر الحياة، التي اصطادها جبران نايا وسط غابات الوجود، والخلود، وترنم بما أعجز عن عزفه بيدي، ولكن جوفي ومشاعري تظل تحلم وتعزفها، وتتحدى بها سمفونيات بيتهوفن الأوبرالية، وبداوة محمد عبده، ورخامة سفارة فيروز، وشرقية ألحان فريد وأم كلثوم.
الكون مناجم ألحان متباعدة تعز على الأكثرية، ولكنها قد تقع صدفة بين جبال وأودية وجليد وركام من العسر، ومن كان له مثلي قلب شفاف سيعرف أين يجد التبر والدر والزمرد والألماس، ولو بلغ بحثه عمق الحفر، وضاق أكسجين المخارج، وعانق خشونة الصخور، يجرفها بيديه بحثا عن الذهب، لا يبالي إن تهدمت واختفت المداخل، وانقطع الصوت، وانقلبت الدنيا بحثا، عن لحد لم يبلغ اللحن الخالد نغمة في نفسه المتأملة.
رحلتي مع العزف بدأت منذ تحكمي بأناملي الصغيرة، هواية وإن لم تنل فخر المهنة حتى اليوم، إلا أني أسعد باللحن الشجي، وأشيد بمن يعزف الجمال والعذوبة، وأقف قلقا متفحصا ناقدا لمن يعزفون بالذكاء الاصطناعي المكهرب، والبلاي باك، يسخطني خلط ما يفعلون، بإبعاد الإنسان عن براءة إبداعه، وهفواته على ظهر المسرح، فلا نعود نرى إلا من يفتح ويغلق فمه وعينيه، وكأنه يعزف ويغني، بحياة زيف، يختلط فيها العازف بالمدعي، والنشاز بالتحسين، والتمويه حد الكذبة، والخداع.
أنا عازف للحب، حتى ولو تقلص عدد من يبدعون ويطربون، ومن يسمعون، ومن يتأوهون بالتفاعل مع ألحاني، وتقطيع أياديهم بسكاكين الإعجاب، بعد أن زاد من حولي وعن البعد يعزفون نشاز الغيرة والكره، والحقد والحسد، والعنصرية، والرياء والنفاق، والدموية، فوق مسارح لم تعد تجذب إلا فاقدي الحس، ومُعطلي السماع النقي، كارهي كينونة النوتة العفوية، وجماليات الصوت البشري، ورصانة الكلمة، وتمكن الأداء.
أنا أعزف بآلات الصدق، وهذه ليست متاحة للجميع، بل إن الكثير لا يدركون أنها تصدر ألحان روعة الجمال والكمال، والقرب والتميز الساحر.
أنا عازف كمنجة الأمانة، والتي يستصغر الكثير حجمها وتأثيرها، وقربها من أوتار القلب، ويستحسنون عليها عربدة حيل الموسيقى الكهربائية، تفقد السامع كثير من أحاسيسه، وتدخله في جنون الزار، ورقص التكسيرات الجسدية، وفقد القدرة على السيطرة على الأطراف والوسط، بفقد الصلة مع الفن الحقيقي، ونهاية بسقوط على الوجه، مغشيا، والموسيقى، ترتفع للسماء، في احتفال جنون وتأبين، لمن لم يعد موجودا بالخدمة، ربما مؤقتا!
أنا عازف على آلات الإنسانية الحقة، بالسلام، وترك ما لا يعنيني، وبسمة المودة، وورود أهديها لمن يقابلني بالبشر، والأدب الجم، حتى وإن خصني أحدهم بحد لسان شفرة، ورذاذ سم أفعى، ومغافلة خنجر الظهر، بعزف قمة انعدام الثقة، وعشق حيل الشياطين، يركبون خيول كيدهم، بعزف رماحهم يهدون قيمة النفس المهتزة، فاقدة السيطرة على لجام وحافر، وسط صفير رياح صحراء الخوف.
أنا عازف للحسن، والجماليات، في كل مناحي طبيعة تحكي، وكل لوحة تترنم بلحن بكر مدهش مزغرد بالجماليات، وبالأثر القديم، والحلم القادم، وجماليات الحاضر، والبناء، والسفر، والبحث عن الأصالة، ولو كانت مخفية تحت رمال شاطئ منسي، أو فوق قمم جبال تحكي عن تاريخ مزور، لا يسمع صداها الكثير، ممن يعزفون، ويرقصون، ومن تباعدوا حتى سكنت النجوم الحارقة أوتارهم.
أنا عازف على آلات العقل، وطبول المنطق، أغنيات رقي وسلام مسموع، ودقة في البدء للتجانس، أرفض الخرافات، والمسلمات، حينما تعيد على سمعي ذات نوتات النشاز، وأنا أحاول معالجة سمعي وبصري وفكري، وإطالة بالي، هاربا من ترديد لا ينفع، ولحن لا يشفع، وقلب مهدر الأصالة، ينزف قيمته، من كل خدش كاذب.
أنا عازف والكل حولي يعزفون، وكم هي مفارقة أغانينا وأحوالنا، ومفاهيمنا، وقدراتنا، ومصداقيتنا، وكم يلفنا الخداع، على بكرات الانقياء، بين شراذم عجز الضعفاء، المستسلمين لعزف الأغلبية ال نشاز، حول من يعرفون ويعجزون عن العودة، ويكتبون نوتات عار، يدربون عليها البراعم، من لا أنامل لهم، ولا أكتاف، ولا أعين ترى السعادة، ولا لسان، يقفز على سطور نوتة الحياة بشغف، ومتعة، ومعرفة، وميزان لا تشوبه شوائب الفساد ممن يدعون أنهم أفضل وأقوم العازفين، والملحنين، والشعراء والمغنين، وهم قشرة زيف تتساقط، بفقد الحس الإنساني النقي، بين صخور اللحن المتهاوي مثل جلمود صخر يحلم بالجنة وهو يسقط من عل.