أ.د. محمد خير محمود البقاعي
نسيت القول إن ترجمة وثائق «موسوعة الملك عبد العزيز سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية» وتحريرها ومراجعتها ولقائي بأساتذة التاريخ، والمقالات التي كتبتها عن الموسوعة وترجمة رحلة شارل ديديه «إقامة في رحاب الشريف الأكبر، شريف مكة المكرمة» أول كتاب ترجمته عن الجزيرة العربية، وفيه فصل عن الدولة السعودية الثانية، ومعلومات نادرة عن الأمير خالد بن سعود وقد لقيه ديدييه في جدة عام 1854م. واستعنت فيها بعدد من الأصدقاء وسافرت إلى الـطائف في ضيافة الصديق الرائد الأستاذ عبد الرحمن المعمر رحمه الله.
دفعني عملي هذا إلى الاهتمام بالتاريخ السعودي في المصادر الفرنسية فعثرت على واحد من أقدم الكتب عن الدولة السعودية الأولى وهو كتاب «تاريخ الوهابيين منذ النشأة حتى عام 1809م» لمؤلفه لويس ألكسندر أوليفيه دو كورانسيه Louis Alexandre Olivier de Corancez (1770 - 1832م). وكان كورانسيه ضمن البعثة العلمية الفرنسية التي رافقت حملة نابليون على مصر. التحق بالحملة عام 1799م، ثم أصبح بعد ذلك قنصل فرنسا في حلب وعضوا في الأكاديمية الفرنسية في عام 1811م. ويعد الكتاب مرجعا مهمّا في تفسير الأحداث المتّصلة بالانتصارات العسكرية للسعوديين في مجالهم الجغرافي المتصل بفضاءيْ؛ الحجاز والعراق.
وأصل الكتاب مقالات نشرتها إحدى الصحف الفرنسية في أوائل القرن التاسع عشر هي صحيفة لومونيتور le Moniteur، ويتضح من خلال تتبع صفحات ما كتبه دو كورانسيه أنه يقوِّم فنّيا العمليات العسكرية، مستغلّا مهارته بوصفه عسكريا شارك مع نابليون بونابرت في أثناء الحملة على مصر (1798- 1801م) كما ذكرنا. وقد جمع معلومات ثرية عن الحركة الإصلاحيّة وقيام الدولة السعودية الأولى. ومما تجدر ملاحظته في كتابات هذا الفرنسي أنه يشرح عناصر التفوّق العسكري السعودي وآلياته في جهات داخل الجزيرة العربية وفي جوارها، ويرجع هذا التفوّق إلى تقنيات حربية جديدة مناسبة لطبيعة الصحراء ابتكرها الأمراء السعوديون. استفاد الفرنسي دو كورانسيه من تقرير بعنوان: «التذكرة في أصل الوهابيين وقوتهم ونفوذهم بعد أن أصبحوا دولة» للقنصل الفرنسي في البصرة جان ريمون Jean Raymond. الذي كان ضابط مدفعية في جيش والي بغداد وشارك في الحملة الفاشلة على الدرعية. لقد جمع دو كورانسيه مادة الكتاب خلال الأعوام الثمانية التي قضاها في حلب. كانت هذه المقالات أول إشارات تاريخية تُنشر في فرنسا عن الوهابيين والدولة السعودية الناشئة. ولنشر هذا الكتاب في دارة الملك عبد العزيز بترجمتي بالاشتراك مع الصديق الدكتور إبراهيم البلوي قصتان يحسن ذكرهما:
أولاهما أنني تشرفت بزيارة سعادة الدكتور ناصر بن عبدالعزيز الداود، الذي كان -يحفظه الله- حينذاك مديرا عاما للمكتب الخاص لأمير منطقة الرياض ودار بيننا حديث ودي عن التعليم والتاريخ ثم قدمت له في نهاية اللقاء نسخة من ترجمتي كتاب دو كورانسيه هدية للأمير وبعد مدة تلقيت من دارة الملك عبد العزيز رسالة مع ترجمة أخرى لكتاب دو كورانسيه يطلبون فيها تحكيم الترجمة فقرأتها وكتبت تقريرا مفصلا عن مرئياتي وبعد مدة تلقيت منهم عرضا لنشر ترجمتي التي قدرت أنها وصلت إليهم على أن يكون على الغلاف اسم المترجم الأول الصديق الأستاذ الدكتور إبراهيم البلوي -يحفظه الله- ويشار إلى مراجعتي للترجمة والتعليق عليها أيضا، وكان ذلك من دواعي سروري وصدر الكتاب عن الدارة كما اقترحوا في عام 1429هـ/2008م.
أما القصة الثانية المتعلقة بنشر الكتاب فقد ذكرتها في مقالة صدرت في صفحة وراق الجزيرة بإشراف صديقي الأستاذ يوسف العتيق يوم الأحد 6 محرم 1427هـ الموافق 5 فبراير (شباط) 2006م بعنوان: «تجار الكلمة وتشويه التاريخ». وأورد هنا نص المقالة لتكون شاهدا على العنوان الذي ذكرناه، وفيها من المعلومات ما يغني حديثنا ويثريه. صدرت (عن دار رياض الريس في بيروت يوليو (تموز) 2003م ترجمة تجارية لكتاب لويس دو كورانسيه تاريخ الوهابيين من نشأتهم إلى عام 1809م. ويطيب لي أن أعرض في هذه الشذرة أوجه النقص والتشويه التي طالت الترجمة التجارية مقارنة بالترجمة التي أنجزها كاتب هذه السطور بالاشتراك مع الزميل الدكتور إبراهيم البلوي بتكليف كريم من دارة الملك عبد العزيز.
لقد غير المترجمون عنوان الكتاب الذي ذكرناه آنفاً، وقد أصبح في الترجمة التجارية التي تهدف إلى الإثارة الصحفية «الوهابيون: تاريخ ما أهمله التاريخ»، ولم يكتف المترجمون بذلك، بل أثبتوا عنواناً إنجليزيا هو ترجمة للعنوان العربي A History of Whabit History Ignored By Louis De Corancez حتى يتبادر إلى ذهن القارئ أن الكتاب العربي هو ترجمة لكتاب بهذا العنوان والحقيقة غير ذلك.
وقد خلط المترجمون بين كتابين لا علاقة بينهما، لمؤلفين مختلفين فجاؤوا بكتاب «جان ريمون» الذي سنتحدث عنه بعد قليل بعد مقدمة كو رانسيه دون أن يشرحوا للقارئ العلاقة بين الكتابين، وحذفوا من كتاب ريمون مقدمة الباحث الفرنسي إدوارد درييو وهي مقدمة توضح القضية الببليوجرافية التي دارت رحاها بين كورانسيه وريمون من جهة وجوزيف روسو صاحب كتاب «وصف ولاية بغداد» الذي ترجمته من جهة أخرى؛ إذ اتهم كورانسيه روسو بسرقة ما كان نشره في صحيفة لومنيتور في عام 1804م وأيد ذلك العالم الجغرافي باربييي دو فوكاج.
أما ريمون فقد كتب لروسو تقارير ضمنها هذا الأخير كتابه دون أن يشير إلى ذلك، ولما ساءت العلاقة بينهما للأسباب التي بيناها في مقدمة ترجمتنا أشار ريمون إلى ذلك.
إذن، كان نشر الكتاب بحاجة إلى مقدمة درييو لتوضيح هذه القضية، وبحاجة إلى مقدمة من المترجم يذكر فيها سيرة كورانسيه وروسو وريمون لتوضيح علاقة هذه الأمور ببعضها ليكون القارئ على معرفة تامة بما يقرأ.. وهو ما فعلناه في المقدمة المستفيضة التي قدمنا بها لترجمتنا.
تبدأ الترجمة التجارية بمقدمة كورانسيه لكتابه ثم يتلوها الكتيب الصغير الذي نشرته الجمعية الملكية الجغرافية المصرية في عام 1925م بعنوان: «التذكرة في أصل الوهابيين وقوتهم ونفوذهم بعد أن أصبحوا أمة». وقد سبق القول أن دارة الملك عبد العزيز نشرته بترجمة وتعاليق شيخي أبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري -يحفظه الله- في كتاب الدارة 1425هـ بعنوان: «التذكرة في تاريخ الوهابيين ودولتهم»؛ وهو حسب الوصف الذي جاء على غلافه وثيقة مأخوذة من أرشيفات وزارة الخارجية الفرنسية. «انظر بحثنا عن هذا الكتاب صدر في مجلة العرب السعودية ج 1 و2، س 29، رجب/شعبان 1424هـ، ص 27-47». ثم تعود الترجمة إلى كتاب كورانسيه وهذا خلط سيسبب خلطا ببليوجرافيا كبيرا، ويُدخل الباحثين والقراء المختصين في دوامة من اللبس والغموض، هذا ناهيك عن الأخطاء الواقعة في الترجمة منذ السطور الأولى للمقدمة، ولو ضربنا الأمثلة على ذلك لطال بنا الأمر، ولكننا نكتفي بمثال واحد من سوء الترجمة الذي يؤدي إلى أخطاء علمية فادحة: جاء في الصفحة (9: «لم يعرف الناس عن الوهابيين حتى بداية القرن التاسع عشر إلا ما كتبه المسيو (؟) «نيبور» الذي أقام مدة قصيرة في نجد عندما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب على رأس تلك الجماعة...)؛ ويتكرر ذلك في الصفحة (54) من الترجمة.
فـ«نيبور» لم يأت إلى نجد وتحدث عن الوهابية حديثا موجزا والصحيح أنه عندما جاء إلى الجزيرة العربية كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب على رأس دعوته. وقد أدرج المترجمون ما وضعه المؤلف في الحاشية ضمن النص الأصلي، ولو أراد المؤلف ذلك لفعله، ولا نملك تغيير صورة كتابه وطبيعته كما حصل في الصفحة (12) عندما أدرجوا في المتن اسم الرجل الذي اعتمد عليه كورانسيه في جمع معلومات عن الوهابيين في حلب وهو السيد «دييغو فرنجيه» انظر ما نشرناه في وراق الجزيرة بعنوان: «المصادر الفرنسية تبوح بأسرارها من مؤلف كتاب كيف كان ظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب»؟
يعود المترجمون بعد كتيب (ريمون) الذي لا يعرف عنه قارئ الترجمة شيئاً، ولا يعرف ما سبب وجوده ضمن كتاب (كورانسيه) إلى كتاب هذا الأخير فيغيرون عناوين الكتاب كلها، وندرج هنا عناوين الكتاب كما هي في الترجمة التجارية مقارنة بما في ترجمتنا، وكان الصديق الدكتور عبد الله العسكر قد فعل ذلك في كلمة طيبة نشرها في صحيفة الرياض.
يتضح من الجدول المرفق أن المترجمين خلطوا في عناوين الكتاب خلطاً كبيراً، ولم يتبينوا أن هناك في الأصل الفرنسي فصلاً يحمل الرقم (11 مكرر)، وحذفوا الفصل السادس عشر فجاءت ترجمتهم في (14) فصلاً والأصل الفرنسي فيه (16) فصلاً.
ثم إن المترجمين نثروا التعاليق التي وضعها المؤلف في نهاية الكتاب خلال الكتاب فجاءت مختلطة بتعاليقهم ناهيك عن أنهم حذفوا منها تعاليق تتعلق بالأماكن والقبائل لصعوبتها كما سنشير إلى ذلك لاحقاً.
لم يعرّف المترجمون إلا بما اشتهر من أسماء الأماكن والأعلام، ولم يقارنوا الأحداث بمثيلاتها في كتب التاريخ المحلي، ولم يترجموا لكثير من الأعلام الذين يحتاجون إلى ترجمة مثل (سليمان باشا الكبير(الذي يختلط ب(سليمان باشا الصغير)، ولا لـ(علي كيخيا) الذي أصبح باشا بغداد، ولا لكيخيا (سليمان الكبير المقتول (أحمد بن الخربندة)، ولا لـ(محمد بك الشاوي) و(فارس الجربا) وغيرهم من الأعلام الذين يعج بهم الكتاب.
كما أنهم تجاوزوا حاشية طويلة يتحدث فيها كورانسيه عن المحطات على طريق الحج الشامي من حلب إلى مكة المكرمة، وتجاوزوا حديث المؤلف عن القبائل التابعة للوهابيين كما يقول.
ولو أردت استعراض المواضع التي أخفق فيها المترجمون في نقل المعنى المقصود لأصبح لدي صفحات طويلة، ويتضح ذلك جلياً لمن قارن بين الترجمتين.
مثال ذلك ما جاء في الصفحة (70): (إن المساواة، وإن كانت سراباً لدى الأمم المتحضرة، فهي على النقيض من تراث الشعوب الرعاة. هي المتاع الوحيد الذي يتمتعون به...) والمعنى المقصود ناهيك عن سوء الأسلوب: (إن المساواة، حلم الأمم المتحضرة، هي إرث الشعوب التي تمتهن الرعي، وهي الثروة الوحيدة التي تمتلكها،...).
أما التصحيف في أسماء الأعلام والقبائل فقد جاء في الترجمة منه ما يسوغ وحده عدم الالتفات لهذه الترجمة: جاء في الصفحة (92) ويتكرر في (ص159): (... فقد تقدم ابن المضين وابن الحرب)، وهذا تصحيف صحيحه: ابن مضيان شيخ قبيلة حرب)، وتحول بنو جهينة إلى بنو جعيتي (ص93)، ثم أين تقع قونية (في الترجمة: كونية)، وأرضروم وسيواس والقرين؟ ومن هو حاكمها (عبد الله بن سالم)؟ (ص 185-187)، وشفاثا تصبح في (ص187) شفاتا وغير ذلك من الأعلام والأماكن.
إن هذه الترجمة التجارية المشوهة لا تقدم الكتاب في قيمته التي حظي بها لدى الدارسين، وهو كتاب يحتاج في رأينا إلى ترجمة وتحقيق، وتعليق على كثير من المواضع العقدية التي ينبغي أن تُسند إلى أهل العلم بالدعوة كما فعلنا عندما استعنا بهم فزودونا مشكورين بكثير من التعاليق الدينية، وقارنا المعلومات الواردة في الكتاب بكتب التاريخ المحلية القديمة والحديثة، وأشرنا وسع الطاقة إلى من نقلوا عن الكتاب.
إن هذه الترجمة لا تغني عن ترجمتنا العلمية التي صدرت عن الدارة بعد وقت من صدور هذه الطبعة المشوهة). ولنا لقاء.