د. عدنان المهنا
تخرُجُ كتابةُ التاريخ و»جغرافيا الذات» لأعلام الرجال والنساء في بلادنا من حيزِ المكان والزمان إلى أبعد ناحيةٍ في الإنسان ما يجعلنا كلنا نفخرُ بالإيقاع والشكلية الداخلية والخارجية والفكرِ والدلالة لهذه الشخصيات محتكمةً إلى رؤية جغرافية تاريخية تنطلق إلى الإنسان والمجتمع والوجود فنزدهي بها لأنها تتطاول داخل الإبداع بمطلقه حتى تتجاوزَ به وجبينها الأسمى بعد أن أمسكت بتاريخها وجغرافيتها الذاتية الثقافية الأدبية هي فيها المبدعة والشخصيةُ الخلاَّقة وما بقي منها أنسنةٌ وأحاسيسُ تفيض من بين الجنبين روحاً تلامسنا بالمشاعر كحالاتٍ من الإبداع قد حلّت راسخةً بواقعنا في شهد واقعيتها هي! لها حنكةٌ خاصة ما جعلها تروِّض الفكر المُستدر من دمها الثقافي العنفواني بالذاتية الموضوعية والنقلةِ الإبداعية المنطلقة الخلاّقة التي تحتوي بعضها مما عاصروه ونعاصره باعتبارها تباشير بعض القامات لا تبارح شخصياتنا ولا تاريخنا كان ظل المؤرخ الأستاذ عبدالله بن عيضة الحصين الثقفي راصداً لشدوها وسلطنتها الحياتية وملكاتها.
ورغم قلةِ الباحثين في هذا الصدد من أحداث التاريخ الذاتوي وعدم توافر الوثائق الكافية! إلا أن الباحث المؤلف كسب بقدراته الدفءَ التاريخي لهؤلاء بعد أن أضحى مولعاً بالثقافة المعرفية للسير ومستفيداً من متغيرات التاريخ ، نقلها بلا دوامة تلفُّ الفكر لتقذف به بعيداً عن بعض إحساسات التاريخ الصادقة.
ويقول (مفكرٌ) كثيرةٌ هي الوثائق التاريخية الوطنية التي تستجيب لضرورات البحث التاريخي في الوقت الراهن، لكن لا بد جراءها من مراعاة إستراتيجية نقصٍ محققة ومصنفة ومفهرسة بطريقة علمية.. وبالتالي فإن الحكم على الكتابة التاريخية لبعض السير والأعلام السعودية يبقى رؤيةً تجريدية متطورة تحلق عالياً فوق سطح الواقع، وتقفز عليه تحت تأثير (سلطة الفكر والانتماء والوصف) على مسئولية المؤرخ!
والأستاذُ الجليل (عبدالله بن عيضة الحصين الثقفي) المؤرخ الراصدُ المتقصي بالشموخ العلمي والأدبي تحادث وبعض السير كاتباً تحت نخلة الأمان لينأى بتأليفه عن براثنِ الوحل أو مشاتل الشوك لأن كرامته كالخيلِ التي تسابق أجسادها! استَقطر لرصده وتقصِّيه من حكمته: التقنين بالصدق والثبات أنجزَ (هذا الكتاب كمعجم موشوم في السير )، وكدراسةٍ أخضعها (لتحليلٍ منهجي صارم) يقوم على إستراتيجية كمية ونوعية لمعطيات الموسوعية (لرجال ونساء )مع إبراز أهمية وثائق تراجمهم ثم ما لبث أن تناول كل سيرة يقيمها توثيقاً منهجياً وتصوراً!
وكان هذا الكتاب في عدة أجزاء ضمن حوالي الأكثر من (1500 صفحة).. فضّل المؤرخ والمثقف الأستاذ (عبدالله الحصين الثقفي) تنظيمها حسب معيار موضوعي في محورين أساسيين: 1- بالصور الشخصية المتاحة ما يتعلق بجردٍ تاريخي لمختلف ما حملته الشخصية من براعة وحنكة في قدراتها ومهاراتها وميولها واتجاهاتها العامة والخاصة بالملامح الرئيسية كإضافة نوعية متميزة للمكتبة العربية 2 - والمحور السردي الذي يضُم دراساتٍ قطاعيةً لملامح منجزات كل ذات استمدّ رحيقها من قوة الفكر وحماس الثقافة ثم الاستناد على محتويات وثائق أرشيفات الأحرف الأبجدية و الأسماء من الألف حتى الياء.. مع فهارسها كأعلام بتكامل ودلالة حبلى بالمرجعيات والإرث الاجتماعي والحضاري للشخصية بكل معاييره ومقاييسه حسب الرؤية السامقة للأستاذ (عبدالله الحصين الثقفي) والتي تتحكم في المتلقي للمتن التاريخي لجغرافية الذات الآسرة بصوت قلمه وسمات قلبه وفكره التي تلوكُ الإبداع والوجدان والآذان المستلقية.
وهذا الكتاب المعجمُ للمتميزين والمشهورين دراسةٌ علمية ضخمة يندلق منها ألقُ التاريخ ويتسلل بسلطنة وتنجذب إليه النفوس الممغنطة بأعْلام لهم بصمة كبيرة وجلية بالمشاركة في توحيد الوطن كما يقول المؤرخ برسم سحنات الإعجاب على جدارية الذاكرة العابرة الممزوجة بكيمياء العجائب تلك التي تفعل فعلتها في ذهنية (الآخر) لاهثةً تنشد نشيد سلام اللقيا لكل شخصية حررّ ورصد سيرتها من كل حبة مرجان وهبتها له رحابة العيون.
لذا فالأستاذ (عبدالله الثقفي) تحدث عن السير.. وهو المحدث بتراثها الإنجازي الحضاري لا يتخيلها خيالاً، بل اسْتهدته تراجمُهم حساً وطنياً قدم لأرضه عرقاً مصقولاً علمياً واقعياً تسلل ضوء وصوت حماسه صارخاً فأرسله إلينا بهذا الكتاب معصوباً بعشقه وتعابير عرفانه متلعلعاً عبر الأحرف والكلمات وحكايات حب الوطن والوفاء والعطاء.
وهذا «السفر الكبير» والذي تناول مجموعةً كبيرة من أعلام ثقيف القبيلة والوطن .. إرثٌ لمنهج موسوعي حقق شروط التحصيل في التركيبة الشخصية الثقافية لرموز من ثقيف ولواقعهم الاجتماعي والثقافي والفكري وما أنجزوه من نماء ثقافي بما يتيحه الأستاذ (القدير جداً) عبدالله الثقفي من فضاءات واسعة للتأويل والاجتهاد وبما يحتله فكرهُ الواعي الجاد من مساحات أكثر من نصوص المعجم المتطوّقة.. الأمر الذي تترجمه قدراته في اكتساح المؤلف من هذا الصنف الذي يروم ممارسة (قراءة جديدة) أو (عصرنة) للتركة المعرفية الحضارية الجغرافية التي لا يختلف إثنان على شموخها وقدرتها في استمرار فرض بريقها على الباحثين.
وأنا.. لا أسعى في هذه المقالة السردية «السطحية» إلى عرض تفاصيل المعجم حتى لا أحرم القارئ من لذة ونشوة قراءته! بل أقتص كما يقول الدكتور (الأطلسي) على وضع الأصبع على متنه بالعموم كقراءة سريعة لا أزعم أنها تشكل فحصاً عاماً له، بقدر ما تسعى إلى الإشادة به وبمؤلفه الذي اقتحم موضوعاً شائكاً هاماً وشيقاً في ذات الآن، وجيّش له مجموعةً من المناهج والرؤى الشمولية .
ومن الناحية المصدرية.. ارتكز المؤلف على (بيبلوغرافيا) راصدة حسب الحروف الألفبائية متنوعة المشارب.. فضلاً عن مرجعيات حديثة تتميز بغزارتها.. وقد أثراها بدراسات يشهد لأصحابها بعلو الكعبِ في حقل الكتابة عن الأعْلام والتراجم والفلسفة والتاريخ والجغرافيا واللغة والأدب أمثال:
* الإصابة في تمييز الصحابة لشهاب الدين أحمد بن علي بن حجر العسقلاني. والمحلى بالآثار والثقات والأعلام لخير الدين الزركلي. والمحلى في شرح المجلى بالحجج والآثار لمؤلفه الأمام علي بن حزم الأندلسي. والطبقات الكبرى لمحمد بن سعد البغدادي. وسير لعبدالملك ابن هشام .. فوجد رحابة الاستيعاب لما يعتملُ في وطنيته وفكره ووجدانه! فأوضح كيفية «إسبار غور» هذا الفضاء من التاريخ السيري المعجمي للشخصيات بموسوعية وبوسائل ملموسة فكان حصاد ما قدمه من ناحية التحليل الثقافي مقارعاً بالحجة والمنطق، وكان يحمد له القدرة على توظيف رصيده الثقافي الفلسفي لتحليل بعض السير مما أدى إلى إغراق سفره في التأمل ومن ثم نجاحه (رغم قلة الوثائق) في نحت مسميات جديدة في أدبيات الأعلام التاريخية الاجتماعية.. وهو على رأي (سيمبان) ربطَ الفلسفة بالتاريخ لإيجاد منظومات من الأحداث وإكساب الكِتاب بعداً هاماً في صيرورة الدراسات الاجتماعية التاريخية الجغرافية و(لفظ القحط) الذي أصبح يخيُّم على حقل الإنتاج المعجمي العام للسير!
** **
- أستاذ الإعلام النفسي بجامعة المؤسس